وَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ لَا حَقَّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ - تَعَالَى - تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ، وَالْجَزَاءُ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا، وَالْجِنَايَةُ تَتَكَامَلُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ، فَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْجَانِي، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - خَالِصًا أَوْ الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّهُ فَنَقُولُ: لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالِاعْتِيَاضُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمَتْرُوكِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ حَقٍّ لِلْمُوَرَّثِ عَلَى مَا قَالَ «﵊ مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُوَرَّثُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ الْحُدُودِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ فِي حَدِّ الزِّنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الزَّانِي مُحْصَنًا - مِائَةُ جَلْدَةٍ إنْ كَانَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا - فَخَمْسُونَ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥] ؛ وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، وَالْجِنَايَةُ تَزْدَادُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ، وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ؛ لِاخْتِصَاصِ الْحُرِّ بِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَنْقَصَ، وَنُقْصَانُ الْجِنَايَةِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ، هَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ إلَّا أَنَّ التَّنْقِيصَ بِالتَّنْصِيفِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَقَادِيرِ ثَبَتَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥] ، وَفِي حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ ثَمَانُونَ فِي الْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ فِي الْعَبْدِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَفِي حَدِّ السَّرِقَةِ لَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ ﵎ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨] وَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَةِ الْحُدُودِ]
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَتِهَا فَمِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَهُوَ الْإِمَامَةُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لِلْحَدِّ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ الْإِمَامُ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهِ - إذَا ظَهَرَ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا عِنْدَنَا، وَمَرَّةً عِنْدَهُ وَبِالْمُعَايَنَةِ بِأَنْ رَأَى عَبْدَهُ زَنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ بِالشُّهُودِ بِأَنْ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ - فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، وَكَذَا فِي إقَامَةِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ عَلَى مَمْلُوكِهَا، وَإِقَامَةِ الْمُكَاتَبِ الْحَدَّ عَلَى عَبْدٍ مِنْ أَكْسَابِهِ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وَهَذَا نَصٌّ.
وَرُوِيَ عَنْهُ ﵊ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَجْلِدْهَا، فَإِنْ عَادَتْ - فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» أَيْ بِحَبْلٍ، وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ فِي الْبَابِ؛ وَلِأَنَّ السُّلْطَانَ إنَّمَا مَلَكَ الْإِقَامَةَ؛ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَتَسَلُّطُ الْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ فَوْقَ تَسَلُّطِ السُّلْطَانِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، وَيَمْلِكُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: فَلَمَّا ثَبَتَ الْجَوَازُ لِلسُّلْطَانِ فَالْمَوْلَى أَوْلَى؛ وَلِهَذَا مَلَكَ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ، كَذَا الْحَدُّ.
(وَلَنَا) أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحُدُودِ ثَابِتَةٌ لِلْإِمَامِ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ اسْتِدْلَالًا بِوِلَايَةِ إنْكَاحِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا ثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِ - لَمْ تَثْبُتْ لِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَهُوَ الْأَبْعَدُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحَدِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْإِمَامِ؛ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ؛ لِأَنَّ الْقُضَاةَ يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّعَرُّضِ خَوْفًا مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَالْإِمَامُ قَادِرٌ عَلَى الْإِقَامَةِ؛ لِشَوْكَتِهِ وَمَنَعَتِهِ وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ لَهُ قَهْرًا وَجَبْرًا، وَلَا يَخَافُ تَبِعَةَ الْجُنَاةِ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ لِانْعِدَامِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَتُهْمَةُ الْمَيْلِ وَالْمُحَابَاةِ وَالْتَوَانِي عَنْ الْإِقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّهِ فَيُقِيمُ عَلَى وَجْهِهَا فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا الْمَوْلَى فَرُبَّمَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ نَفْسِهَا وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ؛ لِمُعَارَضَةِ الْعَبْدِ إيَّاهُ؛ وَلِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ يُعَارِضُهُ فَيَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقَامَةِ - خُصُوصًا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى نَفْسِهِ - فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِقَامَةِ، وَكَذَا الْمَوْلَى يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ الْعَبْدِ الشِّرِّيرِ، وَلَوْ قَصَدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ أَمْوَالِهِ وَيَقْصِدَ إهْلَاكَهُ، وَيَهْرُبَ مِنْهُ فَيَمْتَنِعُ عَنْ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَدْ يُقِيمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute