بُطْلَانٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الْمُخَالِفُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، فَإِنَّهَا فَسْخٌ عِنْدَهُ، وَالْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْتِي فِي مَوْضِعهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.
وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَقُومُ مَقَامَ الزَّوْجِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ يَخْتَصُّ بِسَبَبِهَا الْقَاضِي، وَهُوَ التَّأْجِيلُ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْقَاضِي، فَكَذَا الْفُرْقَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ كَفُرْقَةِ اللِّعَانِ.
(وَجْهُ) الْمَذْكُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ تَخْيِيرَ الْمَرْأَةِ مِنْ الْقَاضِي تَفْوِيضُ الطَّلَاقِ إلَيْهَا، فَكَانَ اخْتِيَارُهَا الْفُرْقَةَ تَفْرِيقًا مِنْ الْقَاضِي مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا مِنْهَا، وَالْقَاضِي يَمْلِكُ ذَلِكَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الزَّوْجِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّفْرِيقِ تَخْلِيصُهَا مِنْ زَوْجٍ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ إيفَاءُ حَقِّهَا دَفْعًا لِلظُّلْمِ وَالضَّرَرِ عَنْهَا، وَذَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْبَائِنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا يُرَاجِعُهَا الزَّوْجُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، فَيُحْتَاجُ إلَى التَّفْرِيقِ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَلَا يُفِيدُ التَّفْرِيقُ فَائِدَتَهُ، وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْإِجْمَاعِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ خَلَا بِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْلُ بِهَا، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ مُسَمًّى، وَالْمُتْعَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى، وَإِذَا.
فَرَّقَ الْقَاضِي بِالْعُنَّةِ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إلَى سَنَتَيْنِ ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِوُجُوبِ الْعِدَّةِ حُكْمٌ بِشُغْلِ الرَّحِمِ، وَشَغْلُ الرَّحِمِ يَمْتَدُّ إلَى سَنَتَيْنِ عِنْدَنَا، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ إلَى سَنَتَيْنِ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: كُنْتُ قَدْ وَصَلْتُ إلَيْهَا، فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: يُبْطِلُ الْحَاكِمُ الْفُرْقَةَ، وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ، فَقَدْ ثَبَتَ الدُّخُولُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ إبْطَالَ الْفُرْقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي لَا يُبْطِلُ الْفُرْقَةَ.
وَكَذَا هَذَا وَكَذَا إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النَّسَبِ عَلَى الدُّخُولِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْمَجْبُوبِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّ خَلْوَةَ الْمَجْبُوبِ تُوجِبُ الْعِدَّةَ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ مِنْ الْمَجْبُوبِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ الْفُرْقَةُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَجْبُوبِ لَا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَقْذِفُ بِالْمَاءِ، فَكَانَ الْعُلُوقُ بِقَذْفِ الْمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الدُّخُولُ لَمْ تَثْبُتْ الْفُرْقَةُ، فَإِنْ فَرَّقَ بِالْعُنَّةِ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا أَبْطَلَ الْفُرْقَةَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى إقْرَارِهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا عِنْدَ الْقَاضِي.
وَلَوْ كَانَتْ أَقَرَّتْ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْفُرْقَةِ.
وَكَذَا إذَا شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهَا بِأَنْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ كَانَ وَصَلَ إلَيْهَا قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَمْ تَبْطُلْ الْفُرْقَةُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ قَضَاءِ الْقَاضِي، فَلَا تُصَدَّقُ عَلَى الْقَاضِي فِي إبْطَالِ قَضَائِهِ، فَلَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ زَوْجُ الْأَمَةِ عِنِّينًا، فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْخِيَارُ إلَى الْأَمَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِفَوَاتِ الْوَطْءِ، وَذَلِكَ حَقُّ الْأَمَةِ، فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهَا كَالْحُرَّةِ، وَلَهَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَطْءِ هُوَ الْوَلَدُ، وَالْوَلَدُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَحْدَهُ؛ وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفُرْقَةِ أَوْ الْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ تَصَرُّفٌ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَنَفْسُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى، فَكَانَ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُ.
[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ، فَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ نَوْعَانِ: نَصٌّ، وَدَلَالَةٌ، فَالنَّصُّ هُوَ التَّصْرِيحُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ نَحْوَ أَنْ تَقُولَ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أَوْ رَضِيتُ بِالنِّكَاحِ أَوْ اخْتَرْتُ الزَّوْجَ وَنَحْوَ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي أَوْ قَبْلَهُ، وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ بِأَنْ خَيَّرَهَا الْقَاضِي.
فَأَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ مُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْمَضْجَعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ، وَالْمُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ، وَلَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ قَبْلَ تَخْيِيرِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رِضًا؛ لِأَنَّ إقَامَتَهَا مَعَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ قَدْ تَكُونُ لِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِاخْتِيَارِ بِحَالِهِ، فَلَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَهَلْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ، وَبِشْرًا قَالَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا خَيَّرَهَا الْحَاكِمُ، فَأَقَامَتْ مَعَهُ أَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ أَوْ قَامَ الْحَاكِمُ أَوْ أَقَامَهَا عَنْ مَجْلِسِهَا بَعْضُ أَعْوَانِ الْقَاضِي، وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِيَارَهَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَهُوَ مَجْلِسُ التَّخْيِيرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا قَالَا: يُقْتَصَرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ (وَجْهُ) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ تَخْيِيرَ الْقَاضِي هَهُنَا قَائِمٌ مَقَامَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ، ثُمَّ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ، فَكَذَا خِيَارُ هَذِهِ.
وَكَذَا إذَا قَامَ الْحَاكِمُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ التَّخْيِيرِ قَدْ بَطَلَ بِقِيَامِ