أَلَا تَرَى أَنَّهَا عُطِفَتْ عَلَى الْحَجَّةِ فِي الْآيَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْأَصْلِ، وَيُقَالُ: حَجَّ فُلَانٌ وَمَا اعْتَمَرَ عَلَى أَنَّ وَصْفَهَا بِالصِّغَرِ دَلِيلُ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هِيَ وَاجِبَةٌ؛ لِيَظْهَرَ الِانْحِطَاطُ إذْ الْوَاجِبُ دُونَ الْفَرْضِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ عَلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ يُصْلَحُ حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ لَا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِفَرْضِيَّةِ الْعُمْرَةِ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، وَنَحْنُ نَقُولُ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْوَاجِبُ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا، فَكَانَ إطْلَاقُ اسْمِ التَّطَوُّعِ صَحِيحًا عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَلَيْسَ لِلْفَرْضِ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَلَا يَصِحُّ الْإِطْلَاقُ، وَقَوْلُ السَّائِلِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (أَهِيَ وَاجِبَةٌ؟) مَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ إذْ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا عَيْنًا، فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لَا نَفْيَ لَهُ، وَبِهِ نَقُولُ.
[شَرَائِطُ وُجُوب الْعُمْرَة]
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَهِيَ شَرَائِطُ وُجُوبِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْحَجِّ.
[أَرْكَان الْعُمْرَة]
(وَأَمَّا) رُكْنُهَا فَالطَّوَافُ لِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] ؛ وَلِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ.
(وَأَمَّا) شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ إلَّا الْوَقْتَ، فَإِنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا وَقْتُ الْعُمْرَةِ، وَتَجُوزُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ فِعْلُهَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
أَمَّا الْجَوَازُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ «مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُمْرَةً إلَّا شَهِدْتُهَا وَمَا اعْتَمَرَ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ» وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ﵁ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اعْتَمَرَ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِهِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ» فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ جَوَازِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى نَهْيِ الشَّفَقَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَوْسِمُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّنَةِ بَلْ فِي وَقْتَيْنِ لِتَوَسُّعِ الْمَعِيشَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ عِنْدَنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيْضًا، وَاحْتَجَّ بِمَا تَلَوْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ فِيهَا (وَجْهُ) رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لَيْسَ وَقْتَ الْوُقُوفِ، فَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: (وَقْتُ الْعُمْرَةِ السَّنَةُ كُلُّهَا إلَّا يَوْمَ عَرَفَةَ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا قَالَتْ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ شُغْلِ الْحَاجِّ بِأَدَاءِ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةُ فِيهَا تَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَقَعُ الْخَلَلُ فِيهِ فَيُكْرَهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبِهِ نَقُولُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالْجَوَازِ لَا يَنْفِيهَا، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَكَذَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْمِيقَاتِ فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ فَمِيقَاتُهُمْ لِلْحَجِّ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِمْ، وَلِلْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ التَّنْعِيمِ أَوْ غَيْرِهِ، وَمَحْظُورَاتُ الْعُمْرَةِ مَا هُوَ مَحْظُورَاتُ الْحَجِّ، وَحُكْمُ ارْتِكَابِهَا فِي الْعُمْرَةِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَجِّ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْحَجِّ.
[وَاجِبَات الْعُمْرَة]
(وَأَمَّا) وَاجِبَاتُهَا فَشَيْئَانِ: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ.
فَأَمَّا طَوَافُ الصَّدْرِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ طَوَافَ الصَّدْرِ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَالْمُعْتَمِرُ يَحْتَاجُ إلَى الْوَدَاعِ، كَالْحَاجِّ، وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ طَوَافَ الصَّدْرِ بِالْحَجِّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافُ» .
[سُنَن الْعُمْرَة]
(وَأَمَّا) سُنَنُهَا فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَجِّ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ الطَّوَافِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ، وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ لَهَا مِنْ مَكَّةَ يَقْطَعُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُلَبِّي فِي الْعُمْرَةِ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ﵃ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَكَانَ يُلَبِّي فِي ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ» وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ نُسُكٌ وَدُخُولُ الْحَرَمِ وَوُقُوعُ الْبَصَرِ عَلَى الْبَيْتِ لَيْسَ بِنُسُكٍ فَقَطْعُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَنَا هُوَ نُسُكٌ أَوْلَى، وَلِهَذَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.