للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثَمَّةَ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِتَرْكِ السُّنَنِ فِي السَّفَرِ.

وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ أُتِيتَ بِالسُّنَنِ فِي السَّفَرِ لَأَتْمَمْتُ الْفَرِيضَةَ " وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْخَوْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الْمُكْثُ لِأَدَاءِ السُّنَنِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ لَا يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، بَلْ الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي يَقَعُ تَطَوُّعًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فِي حَقِّهِ وَهِيَ فَرْضٌ، وَعِنْدَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَوْلَى عِنْدَهُ وَهِيَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْمَكْتُوبَاتِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَفِي خَارِجِ الْوَقْتِ وَفِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَاقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ فِي خَارِجِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ قَدْ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ، فَكَانَتْ الْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضًا فِي حَقِّهِ، فَيَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ، وَلَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَوْ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ فَرْضٌ.

وَقَدْ فَاتَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ بِالْقَضَاءِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْأَرْبَعُ عِنْدَهُ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا فَرْضٌ عِنْدَهُ، وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الظُّهْرِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ هِيَ رَكْعَتَانِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِلْمُقِيمِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَقَدْ بَطَلَتْ التَّبَعِيَّةُ بِبُطْلَانِ الِاقْتِدَاءِ، فَيَعُودُ حُكْمُ الْأَصْلِ لَمَّا كَانَتْ الْعَزِيمَةُ هِيَ الْأَرْبَعُ وَإِنَّمَا أُبِيحَ الْقَصْرُ رُخْصَةً فَإِذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ فَقَدْ اخْتَارَ الْعَزِيمَةَ فَتَأَكَّدَ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَرْبَعِ فَلَا تَجُوزُ لَهُ الرُّخْصَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَوِي فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنْ الصَّلَاةِ سَفَرُ الطَّاعَةِ مِنْ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَسَفَرُ الْمُبَاحِ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْبَغْيِ وَهَذَا عِنْدَنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَثْبُتُ رُخْصَةُ الْقَصْرِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ رُخْصَةَ الْقَصْرِ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا أَوْ نَظَرًا عَلَى الْمُسَافِرِ، وَالْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَالتَّخْفِيفَ.

(وَلَنَا) أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُسَافِرٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا، وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ صَلَاةُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، فَالْخَوْفُ لَا يُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الْعَدَدِ مُقِيمًا كَانَ الْخَائِفُ أَوْ مُسَافِرًا وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ اعْتِبَارِ بَعْضِ مَا يُنَافِي الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ الْمَشْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.

[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا: فَاَلَّذِي يَصِيرُ الْمُقِيمُ بِهِ مُسَافِرًا نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجُ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مُدَّةُ السَّفَرِ وَأَقَلُّهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ عِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مُقَدَّرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ قَالَ أَصْحَابُنَا: مَسِيرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَانِ وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ، وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَدَّرَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَجَعَلَ لِكُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ فَرَاسِخَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ.

وَقَالَ مَالِكٌ: أَرْبَعَةُ بُرُدٍ كُلُّ بَرِيدٍ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ، قِيلَ: سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَافِلَةَ لَا تَقْطَعُ فِي يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ فَرَاسِخَ، وَقِيلَ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.

وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَثْبَتُ أَقْوَالِهِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِيَوْمَيْنِ، أَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ﴾ [النساء: ١٠١] عَلَّقَ الْقَصْرَ بِمُطْلَقِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ فَالتَّقْدِيرُ تَقْيِيدٌ لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» جَعَلَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَلَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَلُّ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ : «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>