هُوَ الطَّعْنُ فِي أَسْفَلِ السَّنَامِ، وَذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ «عَنْ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ مِنْ قِبَلِ الرُّءُوسِ، وَكَانَ يَضْرِبُ أَوَّلًا الَّذِي عَنْ يَسَارِهِ مِنْ قِبَلِ يَسَارِ سَنَامِهِ، ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَى الْآخَرِ فَيَضْرِبُهُ مِنْ قِبَلِ يَمِينِهِ اتِّفَاقًا لِلْأَوَّلِ لَا قَصْدًا» فَصَارَ الطَّعْنُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَصْلِيًّا، وَالْآخَرُ اتِّفَاقِيًّا، بَلْ الِاعْتِبَارُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ أَوْ دَلَائِلِهِ، ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: إنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّةَ الْإِحْرَامِ إحْرَامًا، وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ بَلْ هِيَ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهَا عَزْمٌ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْعَزْمُ عَلَى فِعْلٍ لَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلَ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى أَدَائِهِ، وَهُوَ أَنْ تَعْقِدَ قَلْبَكَ عَلَيْهِ أَنَّكَ فَاعِلُهُ لَا مَحَالَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ﴾ [محمد: ٢١] أَيْ: جَدَّ الْأَمْرُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا» أَيْ مَا وَكَّدْتَ رَأْيَكَ عَلَيْهِ، وَقَطَعْتَ التَّرَدُّدَ عَنْهُ، وَكَوْنُهُ رُكْنًا يُشْعِرُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَكَانَ تَنَاقُضًا، ثُمَّ جَعْلُ الْإِحْرَامِ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ النِّيَّةِ مُخَالِفٌ لِلُّغَةِ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِهْلَالُ، يُقَالُ: أَحْرَمَ أَيْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا، أَيْ الْإِهْلَالُ لَا بُدَّ مِنْهُ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِهْلَالَ شَرْطٌ مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ ﵂ وَقَدْ رَآهَا حَزِينَةً مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا قَضَيْتُ عُمْرَتِي، وَأَلْقَانِي الْحَجُّ عَارِكًا، فَقَالَ النَّبِيُّ: ﷺ ذَاكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنَاتِ آدَمَ حُجِّي وَقُولِي مِثْلَ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ» فَدَلَّ قَوْلُهُ " قُولِي مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ " عَلَى لُزُومِ التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَهَا، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا حَيْثُ أَمَرَهَا بِاتِّبَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ: " قُولِي مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي حَجِّهِمْ "، وَرَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ وَلَبَّى، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهَا خِلَافُهُ فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا عَنْ أُمَّتِي مَا تَحَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَفْعَلُوا» .
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ وُضِعَتْ لِتَعْيِينِ جِهَةِ الْفِعْلِ فِي الْعِبَادَةِ، وَتَعْيِينُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَقْتَ يَقْبَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ هُنَاكَ لَا يَقْبَلُ صَوْمًا آخَرَ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ حَجَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيُبْقِي نَفْسَهُ فِي عُهْدَةِ الْفَرْضِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، فَكَانَ الْإِطْلَاقُ فِيهِ تَعْيِينًا كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَلَوْ نَوَى التَّطَوُّعَ: يَقَعُ عَنْ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَوْقَعْنَاهُ عَنْ الْفَرْضِ عِنْدَ إطْلَاقِ النِّيَّةِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، وَالدَّلَالَةُ لَا تَعْمَلُ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ لَبَّى يَنْوِي الْإِحْرَامَ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ مَضَى فِي أَيِّهِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ شَوْطًا، فَإِنْ طَافَ شَوْطًا كَانَ إحْرَامُهُ عَنْ الْعُمْرَةِ، وَالْأَصْلُ فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ: مَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا، وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ﵄ لَمَّا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ: ﷺ بِمَاذَا أَهْلَلْتُمَا؟ فَقَالَا: بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ بِالْمَجْهُولِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ جَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ بَلْ هُوَ عَقْدٌ عَلَى الْأَدَاءِ، فَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مُجْمَلًا وَيَقِفَ عَلَى الْبَيَانِ، وَإِذَا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ، يَصْرِفُهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا، فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ شَوْطًا وَاحِدًا، كَانَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ فَإِيقَاعُهُ عَنْ الرُّكْنِ أَوْلَى.
وَتَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِفِعْلِهِ كَمَا تَتَعَيَّنُ بِقَصْدِهِ قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْأَصْلِ: وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَطُفْ حَتَّى جَامَعَ أَوْ أَحْصَرَ كَانَتْ عُمْرَةً؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ لَزِمَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ، إذْ الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِحْرَامِ فَمَكَانُ الْإِحْرَامِ هُوَ الْمُسَمَّى بِالْمِيقَاتِ فَنَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمَوَاقِيتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ: وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ.
وَالنَّاسُ فِي حَقِّ الْمَوَاقِيتِ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute