مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ ﵃ أَنَّهُمْ قَالُوا: إذَا قَلَّدَ فَقَدْ أَحْرَمَ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَلَّدَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَقَدْ أَحْرَمَ، وَلِأَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ التَّوَجُّهِ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، فَالنِّيَّةُ اقْتَرَنَتْ بِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَأَشْبَهَ التَّلْبِيَةَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحْرِمُ إلَّا مَنْ أَهَلَّ، وَلَبَّى فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَلَّدَ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَبِهِ نَقُولُ: إنَّ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ، وَيُقِيمُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ» ، وَالتَّقْلِيدُ هُوَ تَعْلِيقُ الْقِلَادَةِ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ مِنْ عُرْوَةٍ مُزَادَةٍ أَوْ شِرَاكِ نَعْلٍ مِنْ أُدْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجُلُودِ، وَإِنْ قَلَّدَ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ وَلَمْ يَبْعَثْ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا، وَإِنْ بَعَثَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ ﵃، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﵁ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوْجِيهِ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهٍ، وَالصَّحِيحُ: قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: «إنِّي كُنْتُ لَأَفْتِلُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَبْعَثُهَا وَيَمْكُثُ عِنْدَنَا حَلَالًا بِالْمَدِينَةِ، لَا يَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ» ، وَلِأَنَّ التَّوْجِيهَ مِنْ غَيْرِ تَوَجُّهٍ لَيْسَ إلَّا أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، كَمَا لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَلَوْ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا قَلَّدَ، وَبَعَثَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يَلْحَقْهَا، وَيَتَوَجَّهُ مَعَهَا فَإِذَا لَحِقَهَا، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا، عِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ مُحْرِمًا، ثُمَّ أَيْضًا مَا لَمْ يَلْحَقْ وَيَتَوَجَّهْ مَعَهُ؛ لِأَنَّ السَّيْرَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْبَدَنَةِ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، وَلَا دَلِيلَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْإِحْرَامَ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ، وَاسْتَحْسَنَّا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِمَا أَنَّ لِلْهَدْيِ فَضْلَ تَأْثِيرٍ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَسُقْ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ فَضْلُ تَأْثِيرٍ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْإِحْرَامِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الِابْتِدَاءِ.
وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ فِي أَثَرِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ الْهَدْيَ إذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَ الْهَدْيَ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ التَّمَتُّعِ لَا تَثْبُتُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَصِيرُ هَذَا الْهَدْيُ لِلْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَكَانَ هَدْيَ التَّطَوُّعِ، وَلَوْ جَلَّلَ الْبَدَنَةَ وَنَوَى الْحَجَّ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ تَوَجَّهَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ عَنْ الْبَدَنَةِ أَوْ لِلتَّزْيِينِ، وَلَوْ قَلَّدَ الشَّاةَ يَنْوِي بِهِ الْحَجَّ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ نَوَى الْإِحْرَامَ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَنَا فَلَمْ يَكُنْ مِنْ دَلَائِلِ الْإِحْرَامِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ﴾ [المائدة: ٢] عَطَفَ الْقَلَائِدَ عَلَى الْهَدْيِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فِي الْأَصْلِ.
وَاسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ جَمِيعًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ نَوْعَانِ: مَا يُقَلَّدُ، وَمَا لَا يُقَلَّدُ، ثُمَّ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ يُقَلَّدَانِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ، لِيَكُونَ عَطْفُ الْقَلَائِدِ عَلَى الْهَدْيِ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَصِحُّ، وَلَوْ أَشْعَرَ بَدَنَتَهُ، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَإِيلَامُ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِكَوْنِ الْمُشْعِرِ هَدْيًا لِئَلَّا يُتَعَرَّضَ لَهُ لَوْ ضَلَّ، وَالْإِتْيَانُ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ أَشْعَرَ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا كَالتَّقْلِيدِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ كَالتَّقْلِيدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا عِنْدَهُمَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَهُمَا، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فَلَمْ يَكُنْ قُرْبَةً، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْإِشْعَارَ عِنْدَهُمَا حَسَنٌ، وَلَمْ يُسَمِّهِ سُنَّةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إكْمَالٌ لِمَا شُرِعَ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَهُوَ إعْلَامُ الْمُقَلِّدِ بِأَنَّهُ هَدْيٌ لِمَا أَنَّ تَمَامَ الْإِعْلَامِ تَحْصُلُ بِهِ سُنَّةٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُثْلَةٌ وَبِدْعَةٌ فَتَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَسَمَّاهُ حَسَنًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْإِشْعَارُ سُنَّةٌ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَشْعَرَ» ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتْ الْمَثُلَةُ مَشْرُوعَةً، ثُمَّ لَمَّا نُهِيَ عَنْ الْمَثُلَةِ انْتَسَخَ بِنَسْخِ الْمَثُلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ قَطْعًا لِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْهَدَايَا لَوْ ضَلَّتْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَا يَتَعَرَّضُونَ لِلْهَدَايَا.
وَالتَّقْلِيدُ مَا كَانَ يَدُلُّ دَلَالَةً تَامَّةً أَنَّهَا هَدْيٌ، فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْعَارِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا هَدْيٌ.
وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى فِي زَمَانِنَا فَانْتَسَخَ بِانْتِسَاخِ الْمَثُلَةِ، ثُمَّ الْإِشْعَارُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute