للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَدْ يُشْرَطُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا لَا يُشْرَطُ لِزَوَالِهِ، فَكَانَ الِاسْتِدْلَال بِالثُّبُوتِ عَلَى الزَّوَالِ اسْتِدْلَالًا فَاسِدًا.

[فَصْلٌ فِي النِّيَّةِ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ]

(فَصْلٌ) :

وَمِنْهَا النِّيَّةُ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي.

بَيَانِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي حَلِّ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ أَوْ التَّطْلِيقِ مِثْلُ قَوْلِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ " أَوْ " أَنْتِ الطَّلَاقُ، أَوْ طَلَّقْتُكِ، أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ " مُشَدَّدًا، سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ صَرِيحًا؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُرَادِ مَكْشُوفُ الْمَعْنَى عِنْدَ السَّامِعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: صَرَّحَ فُلَانٌ بِالْأَمْرِ أَيْ: كَشَفَهُ وَأَوْضَحَهُ، وَسُمِّيَ الْبِنَاءُ الْمُشْرِفُ صَرْحًا لِظُهُورِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ ظَاهِرَةُ الْمُرَادِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الطَّلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ إذْ النِّيَّةُ عَمَلُهَا فِي تَعْيِينِ الْمُبْهَمِ وَلَا إبْهَامَ فِيهَا.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] شَرَعَ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّيَّةِ.

وَقَالَ ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] مُطْلَقًا.

وَقَالَ ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] ، حَكَمَ بِزَوَالِ الْحِلِّ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ وَرَوَيْنَا: " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِ؟ .

وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا لَسَأَلَهُ وَلَا مُرَاجَعَةَ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ الطَّلَاقُ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ.

وَكَذَا لَا يَسَعُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُصَدِّقَهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.

وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ فَقَدْ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ أَصْلًا فَلَا يُصَدَّقُ أَصْلًا.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.

وَقَالَ: نَوَيْتُ الطَّلَاقَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَيْدٍ يُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ حَقِيقَةً فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَجَازَ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ، وَلَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يَقَعْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تُوصَفُ بِأَنَّهَا طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَإِنْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّلَاقِ عَنْ الْعَمَلِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا وَلَا يَقَعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ أَيْضًا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ أَطْلَقُ مِنْ امْرَأَةِ فُلَانٍ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَذَلِكَ عَلَى نِيَّتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: أَنْتَ أَزْنَى مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا صَرِيحًا حَتَّى لَا يَجِبُ الْحَدُّ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ صَرِيحَ الْقَذْفِ يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا وُقِفَ عَلَى النِّيَّةِ إلَّا إذَا خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الطَّلَاقِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السُّؤَالِ وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ مُطْلَقَةٌ وَخَفَّفَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِانْطِلَاقَ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي قَيْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَيْدِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحَبْسِ فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فَوَقَفَ عَلَى النِّيَّةِ.

وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُونِي طَالِقًا أَوْ أَطْلِقِي.

قَالَ: أَرَاهُ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: كُونِي لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ كَوْنِهَا طَالِقًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] إنَّ قَوْلَهُ: كُنْ لَيْسَ بِأَمْرٍ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ التَّكْوِينِ وَلَا تَكُونُ طَالِقًا إلَّا بِالطَّلَاقِ وَكَذَا قَوْلُهُ: " اُطْلُقِي " وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُونِي حُرَّةً أَوْ عَتْقَى وَلَوْ قَالَ: يَا مُطَلَّقَةُ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً وَلَا تَكُونُ مُطَلَّقَةً إلَّا بِالتَّطْلِيقِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الشَّتْمَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى فِيمَا هُوَ وَصْفٌ أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا فَكَانَ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِمِثْلِهِ الشَّتْمُ وَلَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَهُ، فَقَالَ: عَنَيْتُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ دِينَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُطْلَقَةً فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مُطَلَّقَتَهُ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>