الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَيْهِ طَبْعًا، وَالرِّدَّةُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهَا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبْقَاءِ عَقْلِهِ فِيهَا لِلزَّجْرِ وَلِأَنَّ جِهَةَ زَوَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً تَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِسْلَامِ وَجِهَةَ بَقَائِهِ تَقْدِيرًا تَقْتَضِي زَوَالَ الْإِسْلَامِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْبَقَاءِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَكِنْ حَصَلَ لَهُ بِهِ لَذَّةٌ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُكْرَهًا حَتَّى سَكِرَ أَوْ شَرِبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ فَسَكِرَ قَالُوا: إنْ طَلَاقَهُ وَاقِعٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ زَالَ عَقْلُهُ فَإِنَّمَا حَصَلَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِلَذَّةٍ فَيُجْعَلُ قَائِمًا وَيُلْحَقُ الْإِكْرَاهُ وَالِاضْطِرَارُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ شَرِبَ طَائِعًا حَتَّى سَكِرَ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ وَلَكِنْ صُدِّعَ فَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ مَا زَالَ عَقْلُهُ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا بِلَذَّةٍ فَكَانَ زَائِلًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا وَكَذَلِكَ إذَا شَرِبَ الْبَنْجَ أَوْ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِمَا قُلْنَا.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْتُوهًا وَلَا مَدْهُوشًا وَلَا مُبَرْسَمًا وَلَا مُغْمَيًا عَلَيْهِ وَلَا نَائِمًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ هَؤُلَاءِ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَجْنُونِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» .
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا عِنْدَ خُرُوجِ النِّكَاحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ وَالصَّبِيُّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَتَأَمَّلُ فَلَا يَعْرِفُ.
وَأَمَّا كَوْنُ الزَّوْجِ طَائِعًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ شَرْطٌ حَتَّى يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ امْرَأَةً اعْتَقَلَتْ زَوْجَهَا وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ وَمَعَهَا شَفْرَةٌ فَوَضَعَتْهَا عَلَى حَلْقِهِ، وَقَالَتْ: لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أَوْ لَأُنْفِذَنَّهَا فَنَاشَدَهَا اللَّهَ أَنْ لَا تَفْعَلَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» .
وَكَذَا كَوْنُهُ جَادًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْهَازِلِ بِالطَّلَاقِ وَاللَّاعِبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَرُوِيَ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ لَعِبَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَزِمَهُ» .
وَقِيلَ فِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ ﷾ ﴿وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ [البقرة: ٢٣١] وَكَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُ فَيَقُولُ كُنْت لَاعِبًا وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَقُولُ كُنْت لَاعِبًا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَقَالَ ﷺ «مَنْ طَلَّقَ أَوْ حَرَّرَ أَوْ نَكَحَ فَقَالَ إنِّي كُنْت لَاعِبًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْهُ» .
وَكَذَا التَّكَلُّمُ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ وَبِالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْمُسْتَبِينَةَ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةَ الْمَفْهُومَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ.
وَكَذَا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَقَعُ طَلَاقُ شَارِطِ الْخِيَارِ فِي بَابِ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْفَسْخِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَاَلَّذِي مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لِقَوْلِهِ ﷺ «لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» وَأَمَّا الْخُلُوُّ عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ فَشَرْطٌ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِهَا الْمَالُ فَكَانَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةُ الْمَالِ وَأَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَصَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا، فَيُمْنَعُ انْعِقَادُ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ حَتَّى أَنَّهَا لَوْ رُدَّتْ بِحُكْمِ الْخِيَارِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَكَذَا صِحَّةُ الزَّوْجِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَكَذَا إسْلَامُهُ فَيَقَعُ طَلَاقُ الْمَرِيضِ وَالْكَافِرِ لِأَنَّ الْمَرَضَ وَالْكُفْرَ لَا يُنَافِيَانِ أَهْلِيَّةَ الطَّلَاقِ وَكَذَا كَوْنُهُ عَامِدًا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى يَقَعَ طَلَاقُ الْخَاطِئِ وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْخَطَأِ لَيْسَ إلَّا الْقَصْدُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ وَاللَّاعِبِ بِالطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ لِمَا قُلْنَا فِي الطَّلَاقِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ فِي الْعَتَاقِ رِوَايَتَيْنِ فَإِنَّ هِشَامًا رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ اسْقِينِي مَاءً فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَقَعَ وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ فَقَالَ أَنْتَ حُرٌّ لَمْ يَقَعْ وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكَنَدِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمَا ذَكَرْنَا (وَجْهُ) رِوَايَةِ هِشَامٍ أَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ ثَبَتَ بِسَبَبٍ يَتَسَاوَى فِيهِ الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَعَلَى ذَلِكَ زَوَالُهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِسَبَبٍ مُخْتَلِفٌ فِيهِ الْقَصْدُ وَعَدَمُ الْقَصْدِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ زَوَالُهُ وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ