التَّحْرِيرُ فِيهِ تَوْبَةً.
(وَجْهُ) الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ مُغَلَّظَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا ثَابِتَةٌ، بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَلَا يَصْلُحُ التَّحْرِيرُ تَوْبَةً بِهَا كَمَا فِي الْعَمْدِ؟ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْقَتْلُ الْخَطَأُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فَنُفَصِّلُ الْكَلَامَ فِيهِ فَنَقُولُ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ إمَّا أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا حُرَّيْنِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا، وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا، وَإِمَّا أَنْ كَانَ الْقَاتِلُ عَبْدًا، وَالْمَقْتُولُ حُرًّا، وَإِمَّا أَنْ كَانَا جَمِيعًا عَبْدَيْنِ، فَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ وُجُودِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ، وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْتُولِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاتِلِ فَالْإِسْلَامُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْكَافِرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ، وَالصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ لَا يُخَاطَبَانِ بِالشَّرَائِعِ أَصْلًا.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْتُولِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ، وَالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَجِبُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢] إلَى قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢] .
وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ سَلِمَ لَهُ الْحَيَاةُ فِي الدُّنْيَا، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَرُفِعَتْ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْحِكْمَةِ لِمَا فِي وُسْعِ الْخَاطِئِ فِي الْجُمْلَةِ حِفْظُ نَفْسِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ، وَهَذَا أَيْضًا نِعْمَةٌ فَكَانَ وُجُوبُ الشُّكْرِ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِقْدَارَهُ وَجِنْسَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْدِرَ الْعَبْدُ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلِ الشُّكْرِ بِتَعْظِيمِهِ الْعَقْلَ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ، وَلِلَّهِ تَعَالَى الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ الِامْتِنَاعِ بِالتَّكَلُّفِ وَالْجَهْدِ.
وَإِذَا كَانَ جِنَايَةً فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ التَّكْفِيرِ وَالتَّوْبَةِ، فَجُعِلَ التَّحْرِيرُ مِنْ الْعَبْدِ بِحَقِّ التَّوْبَةِ عَنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجِنَايَاتِ، إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ التَّحْرِيرُ أَوْ الصَّوْمُ تَوْبَةً لَهُ دُونَ التَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ، إذْ الْخَطَأُ مَعْفُوٌّ فِي الْجُمْلَةِ، وَجَائِزٌ الْعَفْوُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ فَخَفَّتْ تَوْبَتُهُ لِخِفَّةٍ فِي الْجِنَايَةِ، فَكَانَ التَّحْرِيرُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَلَا شَكَّ فِيهَا.
وَأَمَّا الْخَطَرُ وَالْحُرْمَةُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْخَطَأِ جِنَايَةٌ جَائِزٌ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهَا عَقْلًا لِمَا بَيَّنَّا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ اسْمَهُ ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ لَكَانَ مَعْنَى الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ لَا تُجِرْ عَلَيْنَا، وَهَذَا مُحَالٌ، وَإِنَّمَا رُفِعَ حُكْمُهَا شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﵊ وَقَوْلِهِ ﵊ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» مَعَ بَقَاءِ وَصْفِ الْفِعْلِ عَلَى حَالِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ جِنَايَةً.
[وُجُوبُ الدِّيَةِ]
وَمِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّيَةِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةُ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ.
أَمَّا الشَّرَائِطُ فَبَعْضُهَا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ كَمَالِ الْوَاجِبِ، أَمَّا شَرْطُ أَصْلِ الْوُجُوبِ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعِصْمَةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَعْصُومًا فَلَا دِيَةَ فِي قَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْبَاغِي لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ، فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ لَا مِنْ جَانِبِ الْقَاتِلِ وَلَا مِنْ جَانِبِ الْمَقْتُولِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا.
وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ ﷾ ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ [النساء: ٩٢] .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا تَجِبُ الدِّيَةُ لِقَوْلِهِ ﵎ ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ [النساء: ٩٢] ، وَالثَّانِي: التَّقَوُّمُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُتَقَوِّمًا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ خَطَأً أَنَّهُ لَا تَجِبُ الدِّيَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّقَوُّمَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ هَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ.
ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ: ابْتِدَاءً احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ ﵀ بِقَوْلِهِ ﵎ ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ [النساء: ٩٢] وَهَذَا مُؤْمِنٌ قُتِلَ خَطَأً فَتَجِبُ الدِّيَةُ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢]