للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ التَّحْرِيرَ جَزَاءَ الْقَتْلِ، وَالْجَزَاءُ يَقْتَضِي الْكِفَايَةَ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ مَعَهُ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِالتَّحْرِيرِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى جَعَلَ التَّحْرِيرَ كُلَّ الْوَاجِبِ بِقَتْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ الدِّيَةَ لَصَارَ بَعْضَ الْوَاجِبِ، وَهَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ النَّصِّ.

وَأَمَّا صَدْرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ هَذَا الْمُؤْمِنَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤْمِنَ مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ دِينًا، وَدَارًا، وَهَذَا مُسْتَأْمَنٌ دِينًا لَا دَارًا؛ لِأَنَّهُ مُكَثِّرٌ سَوَادَ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ .

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَفْرَدَ هَذَا الْمُؤْمِنَ بِالذَّكَرِ وَالْحُكْمِ، وَلَوْ تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لَعَرَّفَ حُكْمَهُ بِهِ، فَكَانَ الثَّانِي تَكْرَارًا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، أَوْ يُحْتَمَلْ مَا ذَكَرْنَا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلِيلِينَ عَمَلًا بِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَقْتُولِ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ أَمْ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا؟ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْقَتْلِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا غَيْرُ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ مَسَائِلُ الرَّمْيِ إذَا رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَرْمِيُّ إلَيْهِ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَمَاتَ، فَعَلَى الرَّامِي الدِّيَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ خَطَأً تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَكُونُ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَكَذَا عِنْدَ زُفَرَ، وَإِنْ رَمَى مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ، وَمَاتَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَصِيرُ قَتْلًا بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَلَا عِصْمَةَ لِلْمَقْتُولِ وَقْتَ فَوَاتِ الْحَيَاةِ، فَكَانَ دَمُهُ هَدْرًا، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ فَمَاتَ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ، لَهُمَا أَنَّ لِلْقَتْلِ تَعَلُّقًا بِالْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَاتِلِ، وَأَثَرُهُ يَظْهَرُ فِي الْمَقْتُولِ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِفِعْلِهِ، وَلَا فِعْلَ مِنْهُ سِوَى الرَّمْيِ السَّابِقِ فَكَانَ الرَّمْيُ السَّابِقُ عِنْدَ وُجُودِ زُهُوقِ الرُّوحِ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَالْمَحِلُّ كَانَ مَعْصُومًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ.

وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِمَا فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الرَّمْيِ لَا غَيْرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي بَابِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّامِي مُسْلِمًا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ، يُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ الْبَابُ بَابَ الِاحْتِيَاطِ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا وَقْتَ الرَّمْيِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ لَا يُؤْكَلُ، وَكَذَلِكَ حَلَالٌ رَمَى صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ ثُمَّ أَصَابَهُ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَإِنْ رَمَى وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ حَلَّ فَأَصَابَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ حُجَجُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَرْجِعُ إلَى الْأَهْلِيَّةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ بِلَا خِلَافٍ، وَمَا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْمَحِلِّ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَجْرُوحُ فَمَاتَ وَهُوَ مُرْتَدٌّ أَنَّهُ يُهْدَرُ دَمُهُ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ السَّابِقَ انْقَلَبَ قَتْلًا بِالسِّرَايَةِ، وَقَدْ تَبَدَّلَ الْمَحِلُّ حُكْمًا بِالرِّدَّةِ، فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ السِّرَايَةِ عَنْ ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ كَتَبَدُّلِ الْمَحِلِّ حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَسْأَلَتِنَا.

وَلَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ فَمَاتَ فَلَا دِيَةَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الرَّامِي لِمَوْلَى الْعَبْدِ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا رَمَى إلَيْهِ فَقَدْ صَارَ نَاقِصًا بِالرَّمْيِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ قَبْلَ وُقُوعِ السَّهْمِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ بِتَوَجُّهِ السَّهْمِ إلَيْهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ، وَلَا يَضْمَنُ الدِّيَةَ، وَلَا الْقِيمَةَ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ كَذَا هَذَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ وَقْتِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا بِالرَّمْيِ السَّابِقِ، وَهُوَ كَانَ مِلْكُ الْمَوْلَى حِينَئِذٍ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الَّذِي تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةَ وَتُقْضَى مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَعِنْدَهُمَا سِتَّةُ أَجْنَاسٍ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْحُلَلُ، وَاحْتَجَّا بِقَضِيَّةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاس

<<  <  ج: ص:  >  >>