للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَات الِاعْتِكَافِ مَا يُوجِبُ التَّتَابُعَ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَبْثًا عَلَى الدَّوَامِ فَكَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الِاتِّصَالِ، وَاللَّيَالِي وَالنُّهُرُ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّتَابُعِ وَمَبْنَى الصَّوْمِ لَيْسَ عَلَى التَّتَابُعِ بَلْ عَلَى التَّفْرِيقِ لِمَا بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَهُوَ اللَّيْلُ، فَبَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ.

وَإِنْ أُضِيف إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ الْغَدِ وُجُوبًا مُضَيَّقًا، لَيْسَ لَهُ رُخْصَةُ التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.

وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَلَمْ يَصُمْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الشُّهُورِ عَلَى رَجَبٍ حَتَّى هَجَمَ رَجَبٌ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ حَتَّى جَاءَ رَجَبٌ تَعَيَّنَ رَجَبٌ لِوُجُوبِ الصَّوْمِ فِيهِ عَلَى التَّضْيِيقِ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ التَّأْخِيرُ، وَلَوْ صَامَ رَجَبًا وَأَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ شَهْرٍ آخَرَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، أَوْ قَالَ: أَصُومَ شَهْرًا وَنَوَى التَّتَابُعَ فَأَفْطَرَ يَوْمًا - أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ التَّتَابُعِ، وَصَحَّ الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّتَابُعِ زِيَادَةُ قُرْبَةٍ لِمَا يَلْحَقُهُ بِمُرَاعَاتِهَا مِنْ زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ، وَهِيَ صِفَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ، وَالْإِفْطَارِ، وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا، فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، فَيَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ، فَإِذَا تَرَكَ فَلَمْ يَأْتِ بِالْمُلْتَزَمِ؛ فَيَسْتَقْبِلُ كَمَا فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ.

فَأَمَّا هَهُنَا فَمَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمًا مُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّتَابُعُ لِضَرُورَةِ تَجَاوُرِ الْأَيَّامِ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّهْرِ مُتَجَاوِرَةٌ، فَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ مَا أَفْطَرَ، كَمَا لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا؛ وَلِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ لَوَقَعَ أَكْثَرُ الصَّوْمِ فِي غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ النَّذْرُ، وَلَوْ أَتَمَّ وَقَضَى يَوْمًا لَكَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّوْمِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَلَوْ أَفْطَرَ رَجَبًا كُلَّهُ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلِهَذَا وَجَبَ قَضَاءُ رَمَضَانَ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَ النَّذْرِ بِإِيجَابِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - فَيُعْتَبَرُ بِالْإِيجَابِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى عِبَادِهِ ابْتِدَاءً لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالْقَضَاءِ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ.

[كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ]

[فَصَلِّ فِي أَنْوَاع الْكَفَّارَات وَبَيَانِ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ]

(كِتَابُ الْكَفَّارَاتِ)

الْكَلَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ فِي مَوَاضِعَ: فِي.

بَيَانِ أَنْوَاعِهَا، وَفِي بَيَانِ وُجُوبِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِهِ، (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْكَفَّارَاتُ الْمَعْهُودَةُ فِي الشَّرْعِ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ، وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ، وَالْكُلُّ وَاجِبَةٌ إلَّا أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَوَاحِدَةٌ مِنْهَا عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ، (أَمَّا) الْأَرْبَعَةُ الَّتِي عُرِفَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةُ الْحَلْقِ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] .

وَالْكَفَّارَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ، وَقَالَ - جَلَّ شَأْنُهُ - فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] ، أَيِّ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، وَقَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢] إلَى قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: ٩٢] أَيْ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَعَلَيْهِ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لِأَنَّ صِيغَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةَ الْخَبَرِ لَكِنْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْخَبَرِ لَأَدَّى إلَى الْخُلْفِ فِي خَبَرِ مَنْ لَا يَحْتَمِلُ خَبَرُهُ الْخُلْفَ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِيجَابِ، وَالْأَمْرُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَثِيرُ النَّظِيرِ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] أَيْ لِيُرْضِعْنَ، وَقَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: ٣] إلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ [المجادلة: ٤] ،

<<  <  ج: ص:  >  >>