ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تُعْتَبَرُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ يُشْكِلُ بِمَا إذَا جَامَعَتْهُ، وَهُوَ نَائِمٌ أَنَّهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ إدْخَالُ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمَمْنُوعٍ بَلْ الْمَبِيعُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ عَلَى أَنَّ هَذَا فَرْقًا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ لَا يَقْدَحُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ صَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهَا لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ لَكَانَ ذَلِكَ رَجْعَةً؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَهُ فَكَأَنَّهُ صَدَّقَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهَا قَبَّلَتْهُ لِشَهْوَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الشُّهُودُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى الْجِمَاعِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَعْنًى يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَيُشَاهَدُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْطِ الشَّهْوَةِ فَتُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ.
[رُكْنُ الرَّجْعَةِ]
وَأَمَّا رُكْنُ الرَّجْعَةِ فَهُوَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الرَّجْعَةِ: أَمَّا الْقَوْلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لَهَا: رَاجَعْتُك أَوْ رَدَدْتُك أَوْ رَجَعْتُك أَوْ أَعَدْتُك أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي أَوْ رَاجَعْتهَا أَوْ رَدَّدْتهَا أَوْ أَعَدْتهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ رَدٌّ، وَإِعَادَةٌ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَلَوْ قَالَ لَمَّا نَكَحْتُك أَوْ تَزَوَّجْتُك كَانَ رَجْعَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ رَجْعَةً؛ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ قَوْلُهُ: نَكَحْتُك إثْبَاتَ الثَّابِتِ، وَأَنَّهُ مُحَالٌ فَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ شَرْعًا فَلَمْ يَكُنْ رَجْعَةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ رَاجَعْتُك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ الثَّابِتِ، وَأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ زَوَالِهِ، وَالرَّجْعَةُ فَسْخُ السَّبَبِ، وَمَنْعٌ لَهُ عَنْ الْعَمَلِ فَيَصِحُّ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا حَقِيقَةً لَكِنْ الْمَحَلُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ اسْتِيفَاءِ الثَّابِتِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ قِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْ قَوْله تَعَالَى ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] أَيْ: أَزْوَاجُهُنَّ أَحَقُّ بِنِكَاحِهِنَّ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الرِّجَالِ، وَالنِّكَاحُ الْمُضَافُ إلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الرَّجْعِيَّةِ بِالنِّكَاحِ.
وَأَمَّا الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى الرَّجْعَةِ فَهُوَ أَنْ يُجَامِعَهَا أَوْ يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ أَعْضَائِهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَهُنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا،، وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى الرَّجْعَةِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الرَّجْعَةِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْعِدَّةِ، فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ يَزُولُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا تُتَصَوَّرُ الِاسْتِدَامَةُ إذْ الِاسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عَنْ الزَّوَالِ لَا لِلْمُزِيلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.
كَذَا هَذَا، وَلَوْ طَهُرَتْ عَنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ رَاجَعَهَا فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشْرًا لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا بِانْقِضَاءِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَقَدْ انْقَضَتْ بِيَقِينٍ لِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ إذْ لَا مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى عَشَرَةٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا رَأَتْ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنْ الزَّائِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ حَيْضًا فَتَيَقَّنَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنْ كَانَتْ تَجِدُ مَاءً فَلَمْ تَغْتَسِلْ وَلَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ بِهِ وَلَا مَضَى عَلَيْهَا وَقْتٌ كَامِلٌ مِنْ أَوْقَاتِ أَدْنَى الصَّلَوَاتِ إلَيْهَا لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أَعْرِفُ بَعْدَ الْأَقْرَاءِ مَعْنًى مُعْتَبَرًا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ ﷿ ﴿وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] أَيْ: يَغْتَسِلْنَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي مُغْتَسَلِهَا» .
وَرُوِيَ «مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ» ، وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ﵃ فَإِنَّهُ رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: كُنْت عِنْدَ عُمَرَ ﵁ فَجَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَقَالَ الرَّجُلُ: زَوْجَتِي طَلَّقْتُهَا وَرَاجَعْتُهَا فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُنِي مَا صَنَعَ أَنْ أَقُولَ مَا كَانَ، إنَّهُ طَلَّقَنِي، وَتَرَكَنِي حَتَّى حِضْت الْحَيْضَةَ الثَّالِثَةَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ، وَغَلَّقْت بَابِي، وَوَضَعْت غُسْلِي، وَخَلَعْت ثِيَابِي فَطَرَقَ الْبَابَ فَقَالَ قَدْ رَاجَعْتُك، فَقَالَ عُمَرُ ﵁: قُلْ فِيهَا يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ فَقُلْت: أَرَى أَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قُلْت غَيْرَ هَذَا لَمْ أَرَهُ صَوَابًا