للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ، فَأَقْرَضَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَفَعَلَ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَمَتَاعُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي أَحْرَزُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ فَهُوَ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرنَا حُكْمُ اسْتِيلَاءِ الْكَافِرِ فَأَمَّا حُكْمُ الشِّرَاءِ، فَنَقُولُ: الْحَرْبِيُّ إذَا خَرَجَ إلَيْنَا فَاشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ عِنْدَنَا؛ لَكِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِعَبْدِهِ فَأَسْلَمَ فِي يَدِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْكَافِرِ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِهِ عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَعَالَى، وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لِإِحْرَازِ الْكَافِرِ مَالَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ أَثَرًا فِي زَوَالِ الْعِصْمَةِ لَا فِي زَوَالِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ مَالَ الْكَافِرِ مَمْلُوكٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّابِتَ لِلْحَرْبِيِّ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مَجْبُورٌ عَلَى إزَالَتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ بِإِدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَبْقَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ شَرْعًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ بِالْإِحْرَازِ بِوَجْهٍ، فَيُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ثُمَّ طَرِيقُ الزَّوَالِ هُوَ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْأَصْلِ شَرْطَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ فِي اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ لِتَعَذُّرِ تَحْصِيلِ الْعِلَّةِ، فَأُقِيمَ الشَّرْطُ مَقَامَهُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ مِنْ إقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ مَجْبُورٌ عَلَى بَيْعِ الذِّمِّيِّ أَيْضًا، وَلَا يُتْرَكُ لِيَدْخُلَ دَارَ الْحَرْبِ وَلَوْ.

أَسْلَمَ عَبْدٌ لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْتِقُ، وَهُوَ عَبْدٌ عَلَى حَالِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْإِزَالَةِ لَكِنْ لَا طَرِيقَ لِلزَّوَالِ هَاهُنَا، فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ، وَلَوْ خَرَجَ هَذَا الْعَبْدُ إلَيْنَا، فَإِنْ خَرَجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ وَلَحِقَ بِعَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ عَتَقَ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ، وَقَدْ قَهَرَ مَوْلَاهُ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا إيَّاهُ، فَصَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَى نَفْسِهِ مُسْتَغْنِمًا إيَّاهَا، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي إبَاقِ الطَّائِفِ: «هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ » وَلَوْ خَرَجَ غَيْرَ مُرَاغَمٍ فَإِنْ خَرَجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ لَكِنْ يَبِيعُهُ الْإِمَامُ، وَيَقِفُ ثَمَنَهُ لِمَوْلَاهُ أَمَّا كَوْنُهُ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ قَاهِرًا مُسْتَوْلِيًا، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ بِالْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا وَقْفُ ثَمَنِهِ لِمَوْلَاهُ، فَلِأَنَّهُ بَاعَهُ عَلَى مِلْكِهِ.

وَكَذَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مُرَاغِمًا وَلَكِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ يُعْتَقُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ، مُحْتَاجٌ إلَى طَرِيقِ الزَّوَالِ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ إحْرَازُ نَفْسِهِ بِمَنْعِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهُ أَسْبَقُ مِنْ إحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِيَمْلِكُوهُ، فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الدَّارِ، وَلَكِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ حَرْبِيٍّ، عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ كَمَا زَالَ مِلْكُ الْبَائِعِ عَنْهُ فَقَدْ ثَبَتَ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهِ، فَلَا يُعْتَقُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِلْكٌ مُسْتَحَقُّ الزَّوَالِ مَوْقُوفٌ زَوَالُهُ عَلَى سَبَبِ الزَّوَالِ أَوْ شَرْطِ الزَّوَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ بِزَوَالِهِ إلَيْهِ أَرْضَى.

لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الزَّوَالَ وَغَيْرُهُ مَا اسْتَحَقَّهُ، وَالرِّضَا بِالزَّوَالِ شَرْطُ الزَّوَالِ وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ رَقِيقٌ فِيهَا، فَخَرَجَ هُوَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ تَبِعَهُ عَبْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَافِرًا كَانَ أَوْ مُسْلِمًا فَهُوَ عَبْدٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إلَى مَوْلَاهُ كَخُرُوجِهِ مَعَ مَوْلَاهُ وَلَوْ كَانَ خَرَجَ مَعَ مَوْلَاهُ لَكَانَ عَبْدًا لِمَوْلَاهُ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي بَيَان مَعْنَى الدارين دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ]

(فَصْلٌ) .

وَأَمَّا بَيَانُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَنَقُولُ: لَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى الدَّارَيْنِ، دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْكُفْرِ؛ لِتُعْرَفَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِمَا، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا بِهِ، تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ أَوْ دَارَ كُفْرٍ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ دَارَ الْكُفْرِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَاخْتَلَفُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إنَّهَا بِمَاذَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهَا لَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ إلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ، أَحَدُهَا: ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إنَّهَا تَصِيرُ دَارَ الْكُفْرِ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَنَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ إضَافَةُ دَارٍ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا تُضَافُ الدَّارُ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إلَى الْكُفْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>