للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ]

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا - يَرْجِعُ إلَى مَالِ الشَّاهِدِ، وَالثَّانِي - يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ، أَمَّا الْأَوَّلُ - فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي هَذَا الْبَابِ إتْلَافُ الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ بِالشَّهَادَةِ؛؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَجِبُ إمَّا بِالِالْتِزَامِ أَوْ بِالْإِتْلَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ الِالْتِزَامُ فَيَتَعَيَّنَ الْإِتْلَافُ فِيهَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، فَإِنْ وَقَعَتْ إتْلَافًا انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَلَا.

وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْأَلْفَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ سَبَبًا إلَى الْإِتْلَافِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى الْإِتْلَافِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ، (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَمْ يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلِمَ لَا يَرُدُّهُ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَتَبَيَّنْ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَالْمَشْهُودِ لَهُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ - أَنَّ الرُّجُوعَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمَشْهُودِ بِهِ نَفَذَ بِدَلِيلٍ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي، فَلَا يُنْتَقَضُ الثَّابِتُ ظَاهِرًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعِي كَمَا كَانَ.

وَالثَّانِي - أَنَّ الشَّاهِدَ فِي الرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَتِهِ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ، لِجَوَازِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ غَرَّهُ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَرْجِعَ عَنْ شَهَادَتِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ فَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ لِلتُّهْمَةِ، إذْ التُّهْمَةُ كَمَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يُنْقَضْ الْقَضَاءُ، وَلَا يُسْتَرَدُّ الْمُدَّعَى مِنْ يَدِهِ، وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يُتَوَهَّمُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَصَحَّ الرُّجُوعُ فِي حَقّه، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ الصِّحَّةِ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ وَالتَّوَصُّلِ إلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ، فَيَظْهَرُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى بَدَلِهِ رِعَايَةً لِلْجَوَانِبِ كُلِّهَا، وَإِذَا رَجَعَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَضْمَنَانِ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِالْقَضَاءِ، فَلَا تَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِتْلَافِ بِدُونِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، إنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِأَنْ كَانَ الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالدُّخُولِ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا فَلَمْ تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا، فَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ بِأَنْ كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى أَوْ بِالْمُتْعَةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى ثُمَّ رَجَعَا: ضَمِنَا ذَلِكَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ، لَكِنَّهَا أَكَّدَتْ الْوَاجِبَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا وَبِشَهَادَتِهِمَا بِالطَّلَاقِ تَأَكَّدَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَهُ أَصْلًا، فَصَارَتْ شَهَادَتُهُمَا مُؤَكِّدَةً لِلْوَاجِبِ، وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ، كَالْمُحْرِمِ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ رَجُلٌ فِي يَدِهِ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآخِذِ، وَيَرْجِعُ الْآخِذُ بِذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ لِوُقُوعِ الْقَتْلِ مِنْهُ تَأْكِيدًا لِلْجَزَاءِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ، إذْ لَوْلَا ذَبْحُهُ لَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِرْسَالِ، فَهُوَ بِالذَّبْحِ أَكَّدَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ الْمُؤَكَّدُ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الْوَاجِبِ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً لَهُ، وَهُوَ يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ فَيَضْمَنَانِ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ نَفَذَ عَلَيْهِ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، فَإِنْ قِيلَ: " هَذَا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْوَلَاءُ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ " قِيلَ لَهُ: " الْوَلَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ فَكَانَ هَذَا إتْلَافًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ ".

وَلَوْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ وَلَدَتْ مِنْهُ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَا فَنَقُولُ هَذَا فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>