[كِتَابُ السِّبَاقِ]
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي تَفْسِيرِ السِّبَاقِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالسِّبَاقُ فِعَالٌ مِنْ السَّبْقِ وَهُوَ أَنْ يُسَابِقَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فِي الْخَيْلِ أَوْ الْإِبِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَقُولُ: إنْ سَبَقْتُك فَكَذَا أَوْ إنْ سَبَقْتَنِي فَكَذَا، وَيُسَمَّى أَيْضًا رِهَانًا فِعَالًا مِنْ الرَّهْنِ (فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَأَنْوَاعٌ (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ الْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالنَّصْلِ وَالْقَدَمِ لَا فِي غَيْرِهَا لِمَا رُوِيَ ﵊ أَنَّهُ قَالَ «لَا سَبَقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ نِصَالٍ» إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ السَّبْقُ فِي الْقَدَمِ بِحَدِيثِ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ ﵂ فَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ النَّفْيِ؛ وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ وَاللَّعِبُ حَرَامٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ اللَّعِبَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ التَّحْرِيمِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ ﵊ «كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَقَوْسَهُ وَفَرَسَهُ» حَرَّمَ ﵊ كُلَّ لَعِبٍ وَاسْتَثْنَى الْمُلَاعَبَةَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ فَبَقِيَتْ الْمُلَاعَبَةُ بِمَا وَرَاءَهَا عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ إذْ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخُفِّ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَدِيثِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَضْبَاءَ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَتْ تَسْبِقُ كُلَّمَا دُفِعَتْ فِي سِبَاقٍ فَدُفِعَتْ يَوْمًا فِي إبِلٍ فَسُبِقَتْ فَكَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَآبَةٌ إذْ سُبِقَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إنَّ النَّاسَ إذَا رَفَعُوا شَيْئًا أَوْ أَرَادُوا رَفْعَ شَيْءٍ وَضَعَهُ اللَّهُ» وَكَذَا السَّبْقُ بِالْقَدَمِ لِمَا رَوَتْ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ «سَابَقْت النَّبِيَّ ﵊ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقُلْتُ: هَذَا بِتِلْكَ» فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا - وَهُوَ الرِّيَاضَةُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِأَسْبَابِ الْجِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ - فَكَانَتْ لَعِبًا صُورَةً وَرِيَاضَةً وَتَعَلُّمَ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فَيَكُونُ جَائِزًا إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ، وَلَئِنْ كَانَ لَعِبًا لَكِنَّ اللَّعِبَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ لَا يَكُونُ حَرَامًا، وَلِهَذَا اسْتَثْنَى مُلَاعَبَةَ الْأَهْلِ لِتَعَلُّقِ عَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ بِهَا وَهُوَ انْبِعَاثُ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى الْوَطْءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ وَالسُّكْنَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْخَطَرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إلَّا إذَا وَجَدَ فِيهِ مُحَلِّلًا حَتَّى لَوْ كَانَ الْخَطَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يُدْخِلَا فِيهِ مُحَلِّلًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَار نَحْوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ سَبَقَتْنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلِي عَلَيْك كَذَا فَقَبِلَ الْآخَرُ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ عَلَيْك فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْقِمَارَ فَيُحْمَلُ عَلَى التَّحْرِيضِ عَلَى اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ كَالتَّنْفِيلِ مِنْ الْإِمَامِ وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ نَفْسِهِ بِالْبَدَلِ، وَالْإِمَامُ بِالتَّنْفِيلِ يَتَصَرَّفُ فِيمَا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ الْغَنِيمَةُ فَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ فَهَذَا بِالْجَوَازِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْخَطَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَكِنْ أَدْخَلَا فِيهِ مُحَلِّلًا بِأَنْ كَانُوا ثَلَاثَةً لَكِنْ الْخَطَرُ مِنْ الِاثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَلَا خَطَرَ مِنْ الثَّالِثِ، بَلْ إنْ سَبَقَ أَخَذَ الْخَطَرَ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا، فَهَذَا مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلهُ السَّلَاطِينُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السُّلْطَانُ لِرَجُلَيْنِ: مَنْ سَبَقَ مِنْكُمَا فَلَهُ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّحْرِيضِ عَلَى اسْتِعْدَادِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ خُصُوصًا مِنْ السُّلْطَانِ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَسْبَابِ الْجِهَادِ، ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا حَرَّضَ وَاحِدًا مِنْ الْغُزَاةِ عَلَى الْجِهَادِ بِأَنْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ مِنْ النَّفْلِ كَذَا وَنَحْوَهُ جَازَ كَذَا هَذَا، وَبَلْ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا.
(وَمِنْهَا) أَنْ تَكُونَ الْمُسَابَقَةُ فِيمَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَسْبِقَ وَيُسْبَقَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِيمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَسْبِقُ غَالِبًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فَبَقِيَ الرِّهَانُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِشَرْطٍ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَيَكُونُ عَبَثًا وَلَعِبًا - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute