للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» فَتَجِبُ الْبِدَايَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْبِدَايَةِ بِالْيَمِينِ أَوْ بِالْيَسَارِ.

وَفِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ.

وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ بِجِنْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَلَافِيًا لِلتَّقْصِيرِ بِأَبْلَغِ الْوُجُوهِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ اسْتِدْرَاكِهِ الْفَائِتَ بِجِنْسِهِ فَيَسْتَدْرِكُهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ جَبْرًا لِلْفَائِتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْفَوَائِتِ فِي الشَّرْعِ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ فَإِنَّهُ قَالَ أَجْزَأَهُ الطَّوَافُ، وَيُكْرَهُ، وَهَذَا أَمَارَةُ السُّنَّةِ.

وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَلَا رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ إذَا كَانَ الطَّوَافُ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَسَعَى عَقِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أَوْ كَانَ قَدْ طَافَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْعَ عَقِيبَهُ فَإِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سَعْيٌ، وَكُلُّ طَوَافٍ يَكُونُ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَكُونُ فِيهِ رَمَلٌ، وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ أَفْعَالِهِ.

وَيُكْرَهُ إنْشَادُ الشَّعْرِ، وَالتَّحَدُّثُ فِي الطَّوَافِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ» .

وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ «فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلَا يَنْطِقُ إلَّا بِخَيْرٍ» ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ الدُّعَاءِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ لِمَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ الدُّعَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يُكْرَهُ، وَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ.

وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ التَّسْبِيحُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ لَفْظَةَ " لَا بَأْسَ " وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الرُّخَصِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطُوفَ، وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ أَوْ نَعْلَاهُ إذَا كَانَا طَاهِرَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ طَافَ مَعَ نَعْلَيْهِ» ، وَلِأَنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْخُفَّيْنِ، وَالنَّعْلَيْنِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ أَضْيَقُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الطَّوَافُ أَوْلَى، وَلَا يَرْمُلُ فِي هَذَا الطَّوَافِ إذَا كَانَ طَافَ طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَسَعَى عَقِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ اللِّقَاءِ أَوْ كَانَ قَدْ طَافَ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْعَ عَقِيبَهُ فَإِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ طَوَافٍ عَقِيبَهُ سَعْيٌ، فَكُلُّ طَوَافٍ بَعْدَ سَعْيٍ يَكُونُ فِيهِ رَمَلٌ، وَإِلَّا فَلَا لِمَا نَذْكُرُ عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَالتَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا سُنَنُهُ فَنَذْكُرُهَا عِنْدَ بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[فَصْلٌ مَكَانُ الطَّوَافِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا مَكَانُ الطَّوَافِ فَمَكَانُهُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ هُوَ الطَّوَافُ حَوْلَهُ فَيَجُوزُ الطَّوَافُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَرِيبًا مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ طَافَ مِنْ، وَرَاءِ زَمْزَمَ قَرِيبًا مِنْ حَائِطِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِحُصُولِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلَوْ طَافَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ حِيطَانُ الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ حِيطَانَ الْمَسْجِدِ حَاجِزَةٌ فَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ لِعَدَمِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ بَلْ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لِوُجُودِ الطَّوَافِ حَوْلَهُ لَا حَوْلَ الْبَيْتِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الطَّوَافُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ مَعَ حَيْلُولَةِ حِيطَانِ الْمَسْجِدِ لَجَازَ حَوْلَ مَكَّةَ، وَالْحَرَمِ، وَذَا لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا.

وَيَطُوفُ مِنْ خَارِجِ الْحَطِيمِ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهَا «إنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَقَصَرُوا الْبَيْتَ عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ وَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَثَانُ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ لَرَدَدْتُهُ إلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ، وَلَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا»

وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ» .

وَرُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ نَذَرَتْ بِذَلِكَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْحَطِيمِ رَكْعَتَيْنِ» فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ بِالْآحَادِ، وَلَيْسَ فِي الطَّوَافِ مِنْ، وَرَاءِ الْحَطِيمِ عَمَلًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩]

<<  <  ج: ص:  >  >>