يَزُولُ بِدُونِ ذَلِكَ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ بِسُكْنَى الْمُجْتَازِينَ فِي الرِّبَاطِ وَالْخَانِ وَسِقَايَةُ النَّاسِ مِنْ السِّقَايَةِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ جَعَلَ دَارِهِ أَوْ أَرْضَهُ مَسْجِدًا يَجُوزُ، وَتَزُولُ الرَّقَبَةُ عَنْ مِلْكِهِ لَكِنَّ عَزْلَ الطَّرِيقِ وَإِفْرَازَهُ وَالْإِذْنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَزُولُ الرَّقَبَةُ عَنْ مِلْكِهِ بِنَفْسِ قَوْلِهِ: جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْعَامَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَقَفَ، وَوَقَفَ سَيِّدُنَا أَبُو بَكْرٍ، وَسَيِّدُنَا عُمَرُ، وَسَيِّدُنَا عُثْمَانُ، وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ، وَغَيْرُهُمْ ﵃ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَقَفُوا؛ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ إلَّا إزَالَةَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَوْقُوفِ وَجَعْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ وَجَعَلَ الْأَرْضَ أَوْ الدَّارَ مَسْجِدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَصِحُّ مُنَجَّزًا، وَكَذَا لَوْ اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي يَجُوزُ، وَغَيْرُ الْجَائِزِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ لِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفُرِضَتْ فِيهَا الْفَرَائِضُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَالْوَقْفُ حَبْسٌ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ، فَكَانَ مَنْفِيًّا شَرْعًا وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ وَهَذَا مِنْهُ رِوَايَةً عَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّ الْحَبِيسَ هُوَ الْمَوْقُوف فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، إذْ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّقَبَةِ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ (وَأَمَّا) وَقْفُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ وُقُوعِهِ حَبْسًا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ ﷿، وَدَفْعُهُ ﷺ لَمْ يَقَعْ حَبْسًا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ ﷺ: «إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» (وَأَمَّا) أَوْقَافُ الصَّحَابَةِ ﵃ فَمَا كَانَ مِنْهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَلَمْ تَقَعْ حَبْسًا عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا كَانَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ﵊ فَاحْتُمِلَ أَنَّ وَرَثَتَهُمْ أَمْضَوْهَا بِالْإِجَازَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ كَسَائِرِ الْوَصَايَا، لَكِنْ جَوَازُهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ جَازَ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنَّمَا جَازَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَأَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، بِمَا أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، جَائِزٌ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ.
[فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ جَوَازِ الْوَقْف وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) الْعَقْلُ (وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ؛ لِكَوْنِهِ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ مِنْهُمَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعْتَاقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ (وَمِنْهَا) الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ كَمَا لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِعْتَاقَ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يُخْرِجَهُ الْوَاقِفُ مِنْ يَدِهِ وَيَجْعَلَ لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرُ ﵁ وَقَفَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ فِي يَدِهِ، وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى حَدٍّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّسْلِيمُ كَالْإِعْتَاقِ وَلَهُمَا أَنَّ الْوَقْفَ إخْرَاجُ الْمَالِ عَنْ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ، فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ (وَأَمَّا) وَقْفُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ ﵄ فَاحْتَمَلَ أَنَّهُمَا أَخْرَجَاهُ عَنْ أَيْدِيهِمَا وَسَلَّمَاهُ إلَى الْمُتَوَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ فَصَحَّ، كَمَنْ وَهَبَ مِنْ آخَرَ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ، أَوْ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ وَقْتَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ثُمَّ سُلِّمَ صَحَّ التَّسْلِيمُ كَذَا هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute