للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذْ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.

وَلَوْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِمَا يَدَّعِي الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَادَّعَى الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ، إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْغَصْبِ إقْرَارٌ بِوُجُودِ سَبَبِ وُجُودِ الضَّمَانِ مِنْهُ فَهُوَ بِقَوْلِهِ: رَدَدْت عَلَيْك يَدَّعِي انْفِسَاخَ السَّبَبِ، فَلَا يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْغَاصِبُ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَ الْعَيْبَ فِي الْمَغْصُوبِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُجُودِ الْغَصْبِ مِنْهُ إقْرَارٌ بِوُجُودِ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فِي ضَمَانِهِ فَهُوَ يَدَّعِي إحْدَاثَ الْعَيْبِ مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَيَدَّعِي خُرُوجَ بَعْضِ أَجْزَائِهِ عَنْ ضَمَانِهِ، فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ الدَّابَّةَ وَنَفَقَتْ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ وَأَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لِمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا بِالْغَصْبِ وَمَا عَلِمُوا بِالرَّدِّ، فَبَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ بَقَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إلَى وَقْتِ الْهَلَاكِ وَشُهُودُ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ بِالرَّدِّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَهُوَ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَى الرَّدِّ أَوْلَى، كَمَا فِي شُهُودِ الْجُرْحِ مَعَ شُهُودِ التَّزْكِيَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ وَمَاتَ عِنْدَهُ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ مَاتَ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ قَبْلَ الْغَصْبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، فَلَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ شُهُودَ الْغَاصِبِ اعْتَمَدُوا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ، وَهُوَ حَالُ الْيَدِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ لِلْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنَّهُمْ عَلِمُوهَا ثَابِتَةً، وَلَمْ يَعْلَمُوهَا بِالْغَصْبِ وَظَنُّوا تِلْكَ الْيَدَ قَائِمَةً فَاسْتُصْحِبُوهَا وَشُهُودُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ تَحَقُّقَ الْغَصْبِ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.

وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغَاصِبَ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ هُوَ وَالْعَبْدُ، فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ، فَبَقِيَتْ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِلَا مُعَارِضٍ فَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ: إذَا أَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْغَاصِبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَيِّنَتَهُ قَامَتْ عَلَى إثْبَاتِ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الرَّدُّ، وَبَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ قَامَتْ عَلَى إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ الْغَصْبُ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الرَّدِّ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّابَّةَ نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغَاصِبِ لَا تَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ رَدَّهَا، ثُمَّ غَصَبَهَا ثَانِيًا وَرَكِبَهَا فَنَفَقَ فِي يَدِهِ فَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا، وَشَهِدَ شُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ غَصَبْنَا مِنْكَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: كُنَّا عَشَرَةً، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُصَدَّقُ، وَقَالَ زُفَرُ : يُصَدَّقُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: غَصَبْنَا مِنْكَ حَقِيقَةٌ لِلْجَمْعِ، وَالْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَاجِبٌ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْوَاحِدِ تَرْكٌ لِلْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ فَيُصَدَّقُ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَصَبْنَا إخْبَارٌ عَنْ وُجُودِ الْغَصْبِ مِنْ جَمَاعَةٍ مَجْهُولِينَ، فَلَوْ عَمِلْنَا بِحَقِيقَتِهِ لَأَلْغَيْنَا كَلَامَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَجَازِ أَوْلَى مِنْ الْإِلْغَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا مَسَائِلُ الْإِتْلَافِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ، وَإِمَّا أَنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ، فَإِنْ وَرَدَ عَلَى بَنِي آدَمَ فَحُكْمُهُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا نَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى غَيْرِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ شُرُوطِ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الشَّيْءِ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةً مَطْلُوبَةً مِنْهُ عَادَةً، وَهَذَا اعْتِدَاءٌ وَإِضْرَارٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] ،

<<  <  ج: ص:  >  >>