للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَنْطَلِقُ إلَّا بِإِطْلَاقِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ زَوَالُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِظُهُورِ رُشْدِهِ؛ لِأَنَّ الْحِجَارَةَ كَانَ بِسَفَهِهِ، فَانْطِلَاقُهُ يَكُونُ بِضِدِّهِ وَهُوَ رُشْدُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[الْفَصْلُ الثَّانِي الْحَبْسِ]

(وَأَمَّا) الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ فَصْلُ الْحَبْسِ فَالْحَبْسُ عَلَى نَوْعَيْنِ: حَبْسُ الْمَدْيُونِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَحَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْحَبْسِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُمْنَعُ، عَنْهُ الْمَحْبُوسُ وَمَا لَا يُمْنَعُ أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ الْحَبْسِ فَهُوَ الدَّيْنُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ.

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ.

(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدَّيْنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فَلَا يُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ الْمُتَحَقِّقِ بِتَأْخِيرِ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَدْيُونِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ هُوَ الَّذِي أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ؛ وَكَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ سَوَاءٌ بَعُدَ مَحِلُّهُ أَوْ قَرُبَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ حَلِّ الْأَجَلِ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى إذَا حَلَّ الْأَجَلُ مَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ فِي سَفَرِهِ إلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ دَيْنَهُ.

(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَدْيُونِ فَمِنْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يُحْبَسُ لِقَوْلِهِ ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] ، وَلِأَنَّ الْحَبْسَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ بِإِيصَالِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَلَوْ ظُلِمَ فِيهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْحَبْسُ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ شُرِعَ لِلتَّوَسُّلِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لَا لِعَيْنِهِ، وَمِنْهَا الْمَطْلُ وَهُوَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ الدَّيْنِ لِقَوْلِهِ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ فَيُحْبَسُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ، وَقَوْلِهِ «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَالْحَبْسُ عُقُوبَةٌ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْمَطْلُ لَا يُحْبَسُ لِانْعِدَامِ الْمَطْلِ وَاللَّيُّ مِنْهُ وَمِنْهَا، أَنْ يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِمَّنْ سِوَى الْوَالِدَيْنِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ فَلَا يُحْبَسُ الْوَالِدُونَ وَإِنْ عَلَوْا بِدَيْنِ الْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا لِقَوْلِهِ ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: ١٥] وقَوْله تَعَالَى ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ حَبْسُهُمَا بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ الْوَالِدُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ لَكِنْ تَعْزِيرًا لَا حَبْسًا بِالدَّيْنِ.

(وَأَمَّا) الْوَلَدُ فَيُحْبَسُ بِدَيْنِ الْوَالِدِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْحَبْسِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَقَارِبِ يُحْبَسُ الْمَدْيُونُ بِدَيْنِ قَرِيبِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَسْتَوِي فِي الْحَبْسِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَبْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَيُحْبَسُ وَلِيُّ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ قَضَاءُ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الظُّلْمُ بِسَبِيلٍ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ صَارَ بِالتَّأْخِيرِ ظَالِمًا فَيُحْبَسُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ.

(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ فَطَلَبُ الْحَبْسِ مِنْ الْقَاضِي فَمَا لَمْ يَطْلُبْ لَا يُحْبَسْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ، وَالْحَبْسُ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ، وَوَسِيلَةُ حَقِّ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ وَحَقُّ الْمَرْءِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِطَلَبِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الطَّلَبِ لِلْحَبْسِ، وَإِذَا عُرِفَ سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَشَرَائِطُهُ.

فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي السَّبَبُ مَعَ شَرَائِطِهِ بِالْحُجَّةِ حَبَسَهُ لِتَحَقُّقِ الظُّلْمِ عِنْدَهُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنْدَفِعُ الظُّلْمُ عَنْهُ، وَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَى الْقَاضِي حَالُهُ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا وَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ حَبْسَهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِيَتَعَرَّفَ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَمْ غَنِيٌّ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَبَسَهُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ فَيُطْلِقُهُ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ الْغُرَمَاءَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ ، إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْإِنْظَارِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَالًا، إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يُلَازِمُونَهُ لِقَوْلِهِ ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] ذَكَرَ النَّظِرَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ فَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي.

(وَلَنَا) أَنَّ النَّظِرَةَ هِيَ التَّأْخِيرُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُؤَخَّرَ وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْقَاضِي أَوْ صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَلَا مِنْ السَّفَرِ فَإِذَا اكْتَسَبَ يَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ فَيَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ، وَإِذَا مَضَى عَلَى حَبْسِهِ شَهْرٌ، أَوْ شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَلَمْ يَنْكَشِفْ حَالُهُ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ خَلَّى سَبِيلَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ كَانَ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَإِبْلَاءِ عُذْرِهِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِاشْتِهَارِ الْحَالِ وَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ فَيُطْلِقُهُ، لَكِنْ الْغُرَمَاءُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مُلَازَمَتِهِ فَيُلَازِمُونَهُ لَكِنْ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فَقَالَ الطَّالِبُ: هُوَ مُوسِرٌ وَقَالَ الْمَطْلُوبُ: أَنَا مُعْسَرٌ فَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ

<<  <  ج: ص:  >  >>