رَجُلٍ فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّارِ، فَاقْتَسَمَتْ الْوَرَثَةُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ، وَتَرَكُوا الطَّرِيقَ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ، حَتَّى لَوْ بَاعُوا الدَّارَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَهُ نِصْفَيْنِ لَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَ الْمُوَرِّثِ، وَقَدْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الدَّارَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَجَحَدُوا ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْيَدِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الَّذِي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ؛ إذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ، وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ؛ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ سَوَاءً كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِرْثِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، قَالَ اللَّهُ ﵎: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] .
قَدَّمَ ﷾ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ؛ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَرَثَةِ فِيهَا إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هِيَ مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَقِيَامُ مِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْمَحِلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ، فَقِيَامُ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ أَوْلَى.
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ - وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ - ثَابِتٌ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ مِنْ التَّرِكَةِ عَلَى الشُّيُوعِ، فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فِيهِ، وَتَمْضِي الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُصَانُ عَنْ النَّقْضِ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ صِيَانَتُهَا بِجَعْلِ الدَّيْنِ فِيهِ، وَكَذَا الْوَرَثَةُ إذَا قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ لَا تُنْقَضُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِصُورَةِ التَّرِكَةِ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَعْنَاهَا وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَإِذَا قَضَوْا الدَّيْنَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ اسْتَخْلَصُوا التَّرِكَةَ لِأَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ اقْتَسَمُوا مَالَ أَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَلَا تُنْقَضُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ مِنْ دُيُونِهِمْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوهُ بِالْإِبْرَاءِ، وَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْمُقْتَسِمِينَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ، بِأَنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ إبْرَاءً مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ وَهُوَ مَالِيَّتُهَا لَا بِالصُّورَةِ، وَلِهَذَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الِاسْتِخْلَاصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنْ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ فَسُمِعَتْ.
(وَمِنْهَا) ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ ثَمَّ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا، وَالْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ غَائِبٌ تُنْقَضُ، فَكَذَا هَذَا، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي، فَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ قِسْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ.
(وَمِنْهَا) ظُهُورُ الْوَارِثِ حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ؛ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ ادَّعَى وَارِثٌ وَصِيَّةً لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، حَتَّى لَا تُسْمَعَ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ؛ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى إذْ لَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُمْ الْمِيرَاثَ وَثَمَّ مُوصًى لَهُ، فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَى الْقِسْمَةِ إقْرَارًا مِنْهُ بِانْعِدَامِ الْوَصِيَّةِ، فَكَانَ دَعْوَى وُجُودِ الْوَصِيَّةِ مُنَاقِضَةً فَلَا تُسْمَعُ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الصَّغِيرِ بِقِسْمَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَخًا لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَوَرِثَهُ هَذَا الْمُدَّعِي، وَجَحَدَ الْبَاقُونَ ذَلِكَ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ هُنَا قُضِيَ فِي دَعْوَاهُ؛ لِدَلَالَةِ إقْرَارِهِ بِانْعِدَامِ وَارِثٍ آخَرَ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مِيرَاثٍ يَدَّعِيهِ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِلتَّنَاقُضِ بِدَلَالَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ مِنْهَا لِرَجُلٍ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ لِحَقِّ الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute