الْوِلَايَةِ هُمْ الْعَصَبَاتُ فَإِنْ كَانَ الرَّأْيُ وَتَدْبِيرُ الْقَبِيلَةِ وَصِيَانَتُهَا عَمَّا يُوجِبُ الْعَارَ وَالشَّيْنَ إلَيْهِمْ فَكَانُوا هُمْ الَّذِينَ يَحْرُزُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ فَكَانُوا هُمْ الْمُحِقِّينَ بِالْوِلَايَةِ وَلِهَذَا كَانَتْ قَرَابَةُ التَّعْصِيبِ مُقَدَّمَةً عَلَى قَرَابَةِ الرَّحِمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النور: ٣٢] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَصَبَاتِ وَغَيْرِهِمْ فَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ هُوَ مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ وَذَاتُهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرَابَةَ حَامِلَةٌ عَلَى الشَّفَقَةِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ دَاعِيَةٌ إلَيْهَا وَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا فَوُجِدَ السَّبَبُ وَوُجِدَ شَرْطُ الثُّبُوتِ أَيْضًا وَهُوَ عَجْزُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْعُصُوبَةُ وَقُرْبُ الْقَرَابَةِ شَرْطُ التَّقَدُّمِ لَا شَرْطُ ثُبُوتِ أَصْلِ الْوِلَايَةِ فَلَا جَرَمَ الْعُصْبَةُ تَتَقَدَّمُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ، وَالْأَقْرَبُ مِنْ غَيْرِ الْعَصَبَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْأَبْعَدِ وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ لِاتِّحَادِ سَبَبِ ثُبُوتِهَا - وَهُوَ الْقَرَابَةُ - فَكُلُّ مَنْ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمِيرَاثِ اسْتَحَقَّ الْوِلَايَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ عَبْدًا لَا وِلَايَةَ لَهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَرِثُ أَحَدًا وَكَذَا إذَا كَانَ كَافِرًا وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ مُسْلِمٌ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ مُسْلِمًا وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَافِرٌ لَا وِلَايَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَدُورُ مَعَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، فَثَبَتَ لِكُلِّ قَرِيبٍ يَرِثُ يُزَوِّجُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَوْلَى أَنَّهُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ.
وَكَذَا الْإِمَامُ يُزَوِّجُ وَلَا يَرِثُ لِأَنَّ هَذَا عَكْسُ الْعِلَّةِ لِأَنَّ طَرْدَ مَا قُلْنَا: إنَّ كُلَّ مَنْ يَرِثُ يُزَوِّجُ وَهَذَا مُطَّرِدٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَكْسُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يُزَوِّجُ، وَالشَّرْطُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ الِاطِّرَادُ دُونَ الِانْعِكَاسِ لِجَوَازِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَلٍ ثُمَّ نَقُولُ: مَا قُلْنَاهُ مُنْعَكِسٌ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى الْوَلَاءُ فِي مَمْلُوكِهِ وَهُوَ نَوْعُ إرْثٍ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَرِثُونَ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُهُمْ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمْ وَإِنَّمَا الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فَيَتَزَوَّجُونَ وَيَرِثُونَ أَيْضًا، فَاطَّرَدَ هَذَا الْأَصْلُ وَانْعَكَسَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ ﵁ النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ لِاسْتِحَالَةِ تَفْوِيضِ النِّكَاحِ إلَى الْعَصَبَةِ وَلَا عَصَبَةَ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ النِّكَاحَ إلَى الْعَصَبَاتِ حَالَ وُجُودِ الْعَصَبَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.
[فَصْلٌ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي وِلَايَةُ النِّكَاحِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَنَقُولُ: الْوِلَايَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ نَوْعَانِ:.
وِلَايَةُ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ، وَوِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
الْأَوَّلِ وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَهِيَ نَوْعَانِ أَيْضًا وِلَايَةُ اسْتِبْدَادٍ، وَوِلَايَةُ شَرِكَةٍ وَهِيَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ.
وَكَذَا نُقُولُ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي كَيْفِيَّةِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ -.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ وَالِاسْتِبْدَادِ فَشَرْطُ ثُبُوتِهَا عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَوْنُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونًا كَبِيرًا أَوْ مَجْنُونَةً كَبِيرَةً سَوَاءً كَانَتْ الصَّغِيرَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلَا عَلَى الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ وَعَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ: شَرْطُ ثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِبْدَادِ فِي الْغُلَامِ هُوَ الصِّغَرُ وَفِي الْجَارِيَةِ الْبَكَارَةُ، سَوَاءً كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ بَالِغَةً فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عِنْدَهُ عَلَى الثَّيِّبِ سَوَاءً كَانَتْ بَالِغَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَالْأَصْلُ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا تَدُورُ مَعَ الصِّغَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَعِنْدَهُ فِي الصَّغِيرِ كَذَلِكَ، أَمَّا فِي الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا تَدُورُ مَعَ الْبَكَارَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَفِي الْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَةِ تَدُورُ مَعَ الْجُنُونِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءً كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أَوْ عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ لَمْ يَجُزْ لِلْمَوْلَى التَّزْوِيجُ.
وَعَلَى هَذَا يُبْتَنَى أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَمْلِكَانِهِ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إنْكَاحَ الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا (وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ الْبِكْرَ وَإِنْ كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فَلَا تَعْلَمُ بِمَصَالِحِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا يَقِفُ عَلَى التَّجْرِبَةِ