الْمَوْقُوفُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِغَلَّتِهِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ، وَالْحَبْسُ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَحْبُوسِ كَالرَّهْنِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِصَرْفِ الْفَرْعِ إلَى مَصَالِحِ الْوَقْفِ مِنْ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِ مَا وَهِيَ مِنْ بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَجْرِي إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ.
وَلَوْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ، فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ ﵊: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، فَإِنْ امْتَنَعَ، مِنْ الْعِمَارَةِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا بِأَنْ كَانَ فَقِيرًا، آجَرَهَا الْقَاضِي وَعَمَرَهَا بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْوَقْفِ وَاجِبٌ وَلَا يَبْقَى إلَّا بِالْعِمَارَةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي اسْتِبْقَائِهِ بِالْإِجَارَةِ، كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ إذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهَا عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَنْفَقَ الْقَاضِي عَلَيْهَا بِالْإِجَارَةِ، كَذَا هَذَا.
وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفُهُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ، بَلْ هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَلَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَسْجِدًا فَخَرِبَ جِوَارُ الْمَسْجِدِ أَوْ اسْتَغْنَى عَنْهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَيَكُونُ مَسْجِدًا أَبَدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ فَقَدْ فَاتَ غَرَضُهُ مِنْهُ فَيَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، كَمَا لَوْ كَفَّنَ مَيِّتًا ثُمَّ أَكَلَهُ سَبْعٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، كَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مَسْجِدًا فَقَدْ حَرَّرَهُ وَجَعَلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَصَحَّ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَى مِلْكِهِ كَالْإِعْتَاقِ، بِخِلَافِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مَا حَرَّرَ الْكَفَنَ وَإِنَّمَا دَفَعَ حَاجَةَ الْمَيِّتِ بِهِ وَهُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَيَعُودُ مِلْكًا لَهُ وَقَوْلُهُ: أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمُجْتَازِينَ يُصَلُّونَ فِيهِ، وَكَذَا احْتِمَالُ عَوْدِ الْعِمَارَةِ قَائِمٌ، وَجِهَةُ الْقُرْبَةِ قَدْ صَحَّتْ بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِاحْتِمَالِ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا أَوْ أَرْضًا عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا بِالْخَرَابِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مِيرَاثًا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ.
[فَصْلٌ فِي الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَة]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا قَالَ دَارِي هَذِهِ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ بِالنَّذْرِ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَنْذُورِ بِهِ، وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ يَحْصُلُ بِالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الدَّارِ وَبَلْ أَوْلَى، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِ الدَّارِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، تَصَدَّقَ بِالسُّكْنَى وَالْغَلَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، وَالْوَقْفُ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ، وَلَوْ قَالَ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً، تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إيجَابِ الصَّدَقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ تُصْرَفُ إلَى بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ الْكُلِّ، فَكَذَا إيجَابُ الْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَمْلِكُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَيُقَال لَهُ: أَمْسِكْ قَدْرَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِك وَعِيَالِك إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ مَالًا، فَإِذَا اكْتَسَبْتَ مَالًا تَصَدَّقْت بِمِثْلِ مَا أَمْسَكْت لِنَفْسِك؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الصَّدَقَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ، وَجَمِيعُ مَالِهِ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِالْجَمِيعِ، إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: أَمْسِكْ قَدْرَ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ عَلَى غَيْرِهِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ ﵊: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الدَّعْوَى]
[بَيَانِ رُكْنِ الدَّعْوَى]
(كِتَابُ الدَّعْوَى)
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الدَّعْوَى وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حَدِّ الْمُدَّعِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute