للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: أَعْذَبَ أَيْ مَنَعَ وَأَعْذَبَ أَيْ امْتَنَعَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا وَمَعْنَى الْمَنْعِ يُوجَدُ فِي الْحَبْسِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَنَّهَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ اللِّعَانِ تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ بِالزِّنَا فَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ وَهُوَ الْحَبْسُ بِاللِّعَانِ فَإِذَا قُلْنَا بِمُوجَبِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ وَالصُّلْحَ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ وَالصُّلْحَ؛ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ.

وَكَذَا لَوْ عَفَتْ عَنْهُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَصِحَّ وَعَلَيْهَا رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَمِنْهَا أَنْ لَا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ حَتَّى لَوْ وَكَّلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِاللِّعَانِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ فَلَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ كَسَائِرِ الْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ أَوْ يَمِينٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَة إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[فَصْلٌ فِي بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا وَأَنَّهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَالثَّانِي بِنَفْيِ الْوَلَدِ أَمَّا الَّذِي بِغَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ أَوْ زَنَيْتِ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ.

وَلَوْ قَالَ لَهَا: جُومِعْتِ جِمَاعًا حَرَامًا أَوْ وُطِئْتِ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ لِعَدَمِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا.

وَلَوْ قَذَفَهَا بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ اللِّعَانُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَهُ فَلَمْ يُوجِبْ الْقَذْفَ بِالزِّنَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ زِنَا.

وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقَذَفَهُنَّ جَمِيعًا بِالزِّنَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ أَوْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِالزِّنَا بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ وَهُنَّ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ فِي كُلِّ قَذْفٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَهُوَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ عَنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ.

وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَالْبَعْضُ مِنْهُنَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ مِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ لَا غَيْرُ.

وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ وَالْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَقَذَفَ أُمَّهَا وَقَذْفُ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ ثُمَّ إنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا عَلَى مُطَالَبَةِ الْحَدِّ بُدِئَ بِالْحَدِّ لِأَجْلِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ إسْقَاطَ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَاللِّعَانُ شَهَادَةٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَدَّيْنِ إذَا اجْتَمَعَا وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ بُدِئَ بِمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْآخِرِ لِقَوْلِهِ ﷺ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَقَدْ اسْتَطَعْنَا دَرْءَ الْحَدِّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَإِنْ لَمْ تُطَالِبْهُ الْأُمُّ وَطَالَبَتْهُ الْمَرْأَةُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلْأُمِّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ طَالَبَتْهُ بِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ لِلْأُمِّ بَعْدَ اللِّعَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إقَامَةِ اللِّعَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ خُرُوجُ الزَّوْجِ مِنْ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ لِصَيْرُورَتِهِ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ وَلَمْ يُوجَدْ هَهُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أُمُّهَا مَيِّتَةً فَقَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ وَالْخُصُومَةُ فِي الْقَذْفَيْنِ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ ثُمَّ إنْ خَاصَمَتْهُ فِي الْقَذْفَيْنِ جَمِيعًا يُبْدَأُ بِالْحَدِّ فَيُحَدُّ لِلْأُمِّ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ اللِّعَانِ، وَإِنْ لَمْ تُخَاصِمْ فِي قَذْفِ أُمِّهَا وَلَكِنَّهَا خَاصَمَتْ فِي قَذْفِ نَفْسِهَا يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُحَدُّ لِلْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةَ بِالزِّنَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَذَفَهَا بِالزِّنَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ إنْ خَاصَمَتْهُ فِي الْقَذْفَيْنِ جَمِيعًا يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ حَتَّى يَسْقُطَ اللِّعَانُ وَلَوْ لَمْ تُخَاصِمْ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَخَاصَمَتْ فِي اللِّعَانِ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إذَا خَاصَمَتْ فِي الْحَدِّ يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الَّذِي يَنْفِي الْوَلَدَ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: هَذَا الْوَلَدُ مِنْ الزِّنَا، أَوْ يَقُولَ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي لَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا بِالزِّنَا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ ابْنَهُ بَلْ يَكُونُ ابْنَ غَيْرِهِ وَلَا تَكُونُ هِيَ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَالْجَوَابُ نَعَمْ هَذَا الِاحْتِمَالُ ثَابِتٌ لَكِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّهُ إنْ نَفَاهُ عَنْ الْأَبِ الْمَشْهُورِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَسْتُ بِأَبِيكَ يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَلَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ فَقَالَ لَهَا: لَمْ تَلِدِيهِ لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ لِعَدَمِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ، وَإِنْكَارُ الْوِلَادَةِ لَا يَكُونُ قَذْفًا فَإِنْ أَقَرَّ بِالْوِلَادَةِ أَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>