يَا قَنْبَرٌ خُذْ لِي مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضْعَةً وَتَصَدَّقْ بِهِمَا بِجُلِّ وَدِهِمَا وَبِرُءُوسِهِمَا وَبِأَكَارِعِهِمَا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ وَيَتَّخِذَ الثُّلُثَ ضِيَافَةً لِأَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَيَدَّخِرَ الثُّلُثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ [الحج: ٣٦] وَقَوْلِهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: ٢٨] وَقَوْلِ النَّبِيِّ ﵊ «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا مِنْهَا وَادَّخِرُوا» فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا قُلْنَا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ ضِيَافَةِ اللَّهِ ﷿ بِلُحُومِ الْقَرَابِينِ فَيُنْدَبُ إشْرَاكُ الْكُلِّ فِيهَا وَيُطْعِمُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْكُلِّ أَضْيَافَ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَهُ أَنْ يَهَبَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ جَازَ وَلَوْ حَبَسَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِي الْإِرَاقَةِ.
(وَأَمَّا) التَّصَدُّقُ بِاللَّحْمِ فَتَطَوُّعٌ وَلَهُ أَنْ يَدَّخِرَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ قَالَ «إنِّي كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَلَا فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ» وَرُوِيَ أَنَّهُ ﵊ قَالَ «إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجْلِ الرَّأْفَةِ دُونَ حَضْرَةِ الْأَضْحَى» أَلَّا إنَّ إطْعَامَهَا وَالتَّصَدُّقَ أَفْضَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ ذَا عِيَالٍ وَغَيْرَ مُوَسَّعِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَدَعَهُ لِعِيَالِهِ وَيُوسِعَ بِهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ عِيَالِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ قَالَ النَّبِيُّ ﵊ «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِغَيْرِك» .
وَلَا يَحِلُّ بَيْعُ جِلْدِهَا وَشَحْمِهَا وَلَحْمِهَا وَأَطْرَافِهَا وَرَأْسِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَوَبَرِهَا وَلَبَنِهَا الَّذِي يَحْلُبُهُ مِنْهَا بَعْدَ ذَبْحِهَا بِشَيْءٍ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ أَجْرَ الْجَزَّارِ وَالذَّابِحِ مِنْهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ قَالَ لِعَلِيٍّ ﵁: " تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا، وَلَا تُعْطِي أَجْرًا لِجَزَّارٍ مِنْهَا " وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: إذَا ضَحَّيْتُمْ فَلَا تَبِيعُوا لُحُومَ ضَحَايَاكُمْ وَلَا جُلُودَهَا وَكُلُوا مِنْهَا وَتَمَتَّعُوا وَلِأَنَّهَا مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - الَّتِي أَضَافَ بِهَا عِبَادَهُ وَلَيْسَ لِلضَّيْفِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ طَعَامِ الضِّيَافَةِ شَيْئًا فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلَ الذَّبْحِ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ ذَهَبَتْ عَنْهُ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَلِأَنَّهُ اسْتَفَادَهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَا يَخْلُو عَنْ خُبْثٍ فَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِلْدِ أُضْحِيَّتِهِ فِي بَيْتِهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ سِقَاءً أَوْ فَرْوًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا اتَّخَذَتْ مِنْ جِلْدِ أُضْحِيَّتِهَا سِقَاءً وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهَا فَكَذَا بِجِلْدِهَا، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ كَالْجِرَابِ وَالْمُنْخُلِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَكَانَ الْمُبْدَلُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْجِلْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْجِلْدِ فَلَا يَكُونُ الْجِلْدُ قَائِمًا مَعْنًى وَاَللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - أَعْلَمُ.
[كِتَابُ النَّذْرِ]
[بَيَانِ رُكْنِ النَّذْرِ وَشَرَائِطُهُ]
(كِتَابُ النَّذْرِ)
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ النَّذْرِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ النَّذْرِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَرُكْنُ النَّذْرِ هُوَ الصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: " لِلَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ عَلَيَّ كَذَا، أَوْ هَذَا هَدْيٌ، أَوْ صَدَقَةٌ، أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ، أَوْ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْذُورِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الرُّكْنِ.
أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّاذِرِ فَشَرَائِطُ الْأَهْلِيَّةِ:.
(مِنْهَا) الْعَقْلُ.
(وَمِنْهَا) الْبُلُوغُ، فَلَا يَصِحُّ نَذْرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِأَنَّ حُكْمَ النَّذْرِ وُجُوبُ الْمَنْذُورِ بِهِ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَكَذَا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الشَّرَائِعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً؟ فَكَذَا بِالنَّذْرِ، إذْ الْوُجُوبُ عِنْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute