أَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ يَوْمَ الْحَصَادِ فَلَا يَجِبُ الْحَقُّ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ الْحَصَادِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ [الأنعام: ١٤١] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَأْكُولِ أَفْضَلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ [الأنعام: ١٤١] فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُؤْكَلُ وَلَا تَصْلُحُ لِغَيْرِ الْأَكْلِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَازِمَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الْقَطْعُ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا قُطِعَ وَأُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ لَزِمَهُ إخْرَاجُ عُشْرِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مَأْكُولًا أَوَبَاقِيًا عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجِبُ إيتَاءُ حَقِّهِ يَوْمَ حَصَادِهِ لَكِنْ مَا حَقُّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ أَدَاءُ الْعُشْرِ عَنْ الْبَاقِي فَحَسْبُ أَمْ عَنْ الْبَاقِي وَالْمَأْكُولِ؟ وَالْآيَةُ لَا تَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ تَمَسُّكًا بِالْمَسْكُوتِ وَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ [الأنعام: ١٤١] فَائِدَةٌ، فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى مَا قُلْتُمْ وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ رَدًّا لِاعْتِقَادِ الْكَفَرَةِ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِجَعْلِهَا لِلْأَصْنَامِ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ [الأنعام: ١٤١] أَيْ انْتَفِعُوا بِهَا وَلَا تُضَيِّعُوهَا بِالصَّرْفِ إلَى الْأَصْنَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: ١٤١] .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهَا وَرَدَتْ قَبْلَ حَدِيثِ الْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ فَصَارَتْ مَنْسُوخَةً بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ بَيَانُ رُكْنِ إخْرَاجِ الْعُشْرِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ هَذَا النَّوْعِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ، أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١] وَالْإِيتَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] فَلَا تَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ رَأْسًا مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَإِنَّنَا ذَكَرْنَاهَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِمَّا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدِّي وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى وَبَعْضُهَا إلَى الْمُؤَدَّى إلَيْهِ فَلَا مَعْنًى لِلْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَمِنْهَا هَلَاكُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْخَارِجِ فَإِذَا هَلَكَ يَهْلِكُ بِمَا فِيهِ كَهَلَاكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ هَلَكَ الْبَعْضُ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ وَيُؤَدَّى عُشْرُ الْبَاقِي قَلَّ الْبَاقِي، أَوْ كَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ قَدْرُ الْهَالِكِ مَعَ الْبَاقِي فِي تَكْمِيلِ قَدْرِ النِّصَابِ إنْ بَلَغَ نِصَابًا يُؤَدَّى وَإِلَّا فَلَا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي الْبَاقِي بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ضَمِّ قَدْرِ الْهَالِكِ إلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ أَخَذَ الضَّمَانَ مِنْهُ وَأَدَّى عُشْرَهُ وَإِنْ اُسْتُهْلِكَ بَعْضُهُ أَدَّى عُشْرَ الْقَدْرِ الْمُسْتَهْلَكِ مِنْ الضَّمَانِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ الْمَالِكُ، أَوْ اُسْتُهْلِكَ الْبَعْضُ بِأَنْ أَكَلَهُ ضِمْنَ عُشْرِ الْهَالِكِ وَصَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ.
وَمِنْهَا الرِّدَّةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْقُطُ كَالزَّكَاةِ وَمِنْهَا مَوْتُ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ إذَا كَانَ اسْتَهْلَكَ الْخَارِجَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤَدَّى الْعُشْرُ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يَسْقُطُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ وَقَدْ مَضَى الْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ]
(فَصْلٌ) :
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي.
بَيَانِ مَا فِيهِ الْخُمُسُ مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْأَرْضِ وَمَا لَا خُمُسَ فِيهِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ إلَيْهِ وَمَنْ لَهُ وِلَايَةُ أَخْذِ الْخُمُسِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا يُسَمَّى كَنْزًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَالثَّانِي يُسَمَّى مَعْدِنًا وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ حَقِيقَتَهُ لِلْمَعْدِنِ وَاسْتِعْمَالَهُ لِلْكَنْزِ مَجَازًا.
أَمَّا الْكَنْزُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَارِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَالْمُصْحَفِ وَالدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَلَامَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُوشِ عَلَيْهَا الصَّنَمُ، أَوْ الصَّلِيبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ لَا عَلَامَةَ بِهِ أَصْلًا فَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ كَالْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ وَغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ الْمُسْلِمِينَ لَا يُغْنَمُ إلَّا أَنَّهُ مَالٌ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ، وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ بِلَا خِلَافٍ كَالْمَعْدِنِ عَلَى مَا بُيِّنَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ وَلَا عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ قِيلَ إنَّ فِي زَمَانِنَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ اللُّقَطَةِ أَيْضًا وَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ قَدْ طَالَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ مَالِ الْكَفَرَةِ بَلْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ، وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْكُنُوزَ غَالِبًا بِوَضْعِ الْكَفَرَةِ وَإِنْ كَانَ بِهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْكَنْزِ فَقَالَ: فِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَهُوَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْكَفَرَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا، أَوْ صَغِيرًا؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ وَاجِدٍ وَوَاجِدٍ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ؟ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ وَاَلَّذِي مِنْ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وَلِأَنَّهُ إذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ