يَكُنْ مُجَازَاةً بِالْمِثْلِ، وَقَوْلُهُ: " الْحَزُّ يَقَعُ تَتْمِيمًا لِلْقَطْعِ " فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَمِّمَ لِلشَّيْءِ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَالْحَزُّ قَتْلٌ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْقَطْعِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ تَمَامِهِ؟ وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَا يُمَكَّنُ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ فَعَلَ يُعَزَّرُ لَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَيِّ طَرِيقٍ قَتَلَهُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ بِالْعَصَا أَوْ بِالْحَجَرِ أَوْ أَلْقَاهُ مِنْ السَّطْحِ أَوْ أَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ أَوْ سَاقَ عَلَيْهِ دَابَّةً حَتَّى مَاتَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقُّهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الشَّرْعِ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ إمَّا لِضَعْفِ بَدَنِهِ أَوْ لِضَعْفِ قَلْبِهِ أَوْ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ إلَيْهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنَابَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ الْمَأْمُورُ، وَالْآمِرُ حَاضِرٌ صَارَ مُسْتَوْفِيًا، وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ وَالْآمِرُ غَيْرُ حَاضِرٍ، وَأَنْكَرَ وَلَيُّ هَذَا الْقَتِيلِ الْأَمْرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْأَصْلِ فَلَوْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إنَّمَا يَخْرُجُ بِالْأَمْرِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ وَلَيُّ هَذَا الْقَتِيلِ فِي الْأَمْرِ، وَتَصْدِيقُ وَلَيِّ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ بَعْدَ مَا بَطَلَ حَقُّهُ عَنْ الْقِصَاصِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ فَصَارَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ الْأَمْرُ فَبَقِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ مُوجِبًا الْقِصَاصَ، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ إنْسَانٍ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، وَمَاتَ فَادَّعَى، وَلَيُّ الْقَتِيلِ الدِّيَةَ فَقَالَ الْحَافِرُ: حَفَرْتُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ، وَصَدَّقَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ، وَيُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي فِعْلٍ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْأَمْرِ بِهِ لِلْحَالِ، وَهُوَ الْحَفْرُ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا تَصْدِيقًا بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ فَاعْتُبِرَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ لَهُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا فَوَاتُ مَحَلِّ الْقِصَاصِ بِأَنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الشَّيْءِ فِي غَيْر مَحَلِّهِ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْمَوْتِ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا عِنْدَنَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ﵀، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ تَجِبُ الدِّيَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا إذَا قُتِلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِحَقٍّ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ بِأَنْ قَتَلَ إنْسَانًا فَقُتِلَ بِهِ قِصَاصًا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَلَا يَجِبُ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إذَا فَاتَ ذَلِكَ الْعُضْوُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قُطِعَ بِحَقٍّ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ فَقُطِعَ بِهِ أَوْ سَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ فَقُطِعَ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ أَيْضًا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، لَكِنْ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ بِحَقٍّ.
وَالثَّانِي بَيْنَ الْقَطْعِ بِغَيْرِ حَقٍ، وَبَيْنَ الْقَطْعِ بِحَقٍّ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ طَرَفَهُ بِحَقٍّ فَقَدْ قَضَى بِهِ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ فَجُعِلَ كَالْقَائِمِ، وَجُعِلَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا لَهُ تَقْدِيرًا كَأَنَّهُ أَمْسَكَهُ حَقِيقَةً، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِعُذْرِ الْخَطَأِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُنَاكَ يَجِبُ الْأَرْشُ، كَذَا هَذَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدْ فِيمَا إذَا قُطِعَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَفِي الْقَتْلِ إنْ قَضَى حَقًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْعَلَ مُمْسِكًا لِلنَّفْسِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الطَّرَفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا الْعَفْوُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ حُكْمِهِ أَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَافِي عَفَوْتُ أَوْ أَسْقَطْتُ أَوْ أَبْرَأْتُ أَوْ وَهَبْتُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ وَلَا حَقَّ مُحَالٌ فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِعَدَمِ الْحَقِّ، وَلَا مِنْ الْأَبِ، وَالْجَدِّ فِي قِصَاصٍ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلصَّغِيرِ لَا لَهُمَا، وَإِنَّمَا لَهُمَا وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ لِلصَّغِيرِ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا مُقَيَّدَةٌ بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ، وَالْعَفْوُ ضَرَرٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ أَصْلًا، وَرَأْسًا فَلَا يَمْلِكَانِهِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ السُّلْطَانُ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَافِي عَاقِلًا.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، فَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ مِنْ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ فَلَا يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَأَمَّا) حُكْمُ الْعَفْوِ فَالْعَفْوُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَلِيِّ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَجْرُوحِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَلِيِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَ الْمَوْتِ بَعْدَ الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute