للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمَقْتُولُ وَاحِدًا فَعَفَا عَنْ الْقَاتِلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهُ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْحَيَاةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَحْصُلُ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَفَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ الثَّأْرَ بَعْدَ الْعَفْوِ، فَلَا يَقْصِدُ قَتْلَ الْقَاتِلِ فَلَا يَقْصِدُ الْقَاتِلُ قَتْلَهُ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْحَيَاةِ بِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ، فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ بِدُونِهِ، وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢] أَيْ مَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] أَنَّ ذَلِكَ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ الْقَتْلُ لَا غَيْرُ، وَحُكْمُ الْإِنْجِيلِ الْعَفْوُ بِغَيْرِ بَدَلٍ لَا غَيْرُ، فَخَفَّفَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فَشَرَعَ الْعَفْوَ بِلَا بَدَلٍ أَصْلًا، وَالصُّلْحَ بِبَدَلٍ سَوَاءٌ عَفَا عَنْ الْكُلِّ أَوْ عَنْ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ الْبَعْضِ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ ذِكْرُ الْكُلِّ كَالطَّلَاقِ، وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ لَا يَنْقَلِبُ مَالًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيِّ فِي الْقِصَاصِ عَيْنًا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ لَا إلَى بَدَلٍ، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ، وَالْمَحَلِّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ يَسْقُطُ مُطْلَقًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ انْصَرَفَ الْوَاجِبُ تَصْحِيحًا لَتَصَرُّفِهِ كَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَلَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ، فَأَبْرَأَهُ الْمَدْيُونُ عَنْ أَحَدِهِمَا، لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْآخَرِ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، وَلَوْ عَفَا عَنْهُ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ الْعَفْوِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجِبُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] جَعَلَ جَزَاءَ الْمُعْتَدِي، وَهُوَ الْقَاتِلُ بَعْدَ الْعَفْوِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ - نَسْتَجِيرُ بِاَللَّهِ مِنْ هَوْلِهِ - فَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ فِي الدُّنْيَا لَصَارَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْجَزَاءِ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الدُّنْيَا يَرْفَعُ عَذَابَ الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ» ، وَفِيهِ نَسْخُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ.

(وَلَنَا) عُمُومَاتُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ، وَحَالٍ وَحَالٍ، إلَّا شَخْصًا أَوْ حَالًا قُيِّدَ بِدَلِيلٍ، وَكَذَا الْحِكْمَةُ الَّتِي لَهَا شُرِعَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْحَيَاةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.

وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ: إنَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هَهُنَا هُوَ الْقِصَاصُ فَإِنَّ الْقَتْلَ غَايَةُ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ فِي الْإِيلَامِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَانَتْ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَتَحْتَمِلُ هَذَا وَتَحْتَمِلُ مَا قَالُوا فَلَا تَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ أَكْثَرَ بِأَنْ قَتَلَ رَجُلَانِ وَاحِدًا، فَإِنْ عَفَا عَنْهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ أَصْلًا؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِصَاصًا كَامِلًا، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ الْعَفْوَ عَنْ الْآخَرِ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا عَلَى الِانْفِرَادِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، إذْ الْقَتْلُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَفْوِيتُ حَيَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلًا عَلَى الِانْفِرَادِ، وَيُجْعَلُ قَتْلُ صَاحِبِهِ عَدَمًا فِي حَقِّهِ، فَإِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْعَفْوُ عَنْ الْقَاتِلِ جَعَلَ فِعْلَ الْآخَرِ عَدَمًا تَقْدِيرًا فَيُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ.

وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا لَيْسَ مَا ذُكِرَ، وَلَيْسَ الْقَتْلُ اسْمًا لِتَفْوِيتِ الْحَيَاةِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لَفِعْلٍ مُؤَثِّرٌ فِي فَوَاتِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَهَذَا حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْكَمَالِ، فَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ، هَذَا إذَا كَانَ الْوَلِيُّ وَاحِدًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ إذْ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنٍ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ فَيَكُونَ إجْمَاعًا، وَقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] نَزَلَتْ فِي دَمٍ بَيْنَ شُرَكَاءَ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عَنْ الْقَاتِلِ فَلِلْآخَرَيْنِ أَنْ يَتَّبِعُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي نَصِيبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ [البقرة: ١٧٨] ، وَهَذَا الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، وَيَكُونُ نَصِيبُ الْآخَرِ، وَهُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>