لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ - فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ.
(وَأَمَّا) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْتِ مِنْ سُقُوطِ الْحَائِطِ فَلِأَنَّ بِهِ يَظْهَرُ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَهُوَ التَّعَدِّي؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ السُّقُوطِ لَا يُعْلَمُ كَوْنَ صَاحِبِ الْحَائِطِ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهِ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي الْقَسَامَةِ]
فِي الْقَسَامَةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ قَتْلِ نَفْسٍ عُلِمَ قَاتِلُهَا، فَأَمَّا حُكْمُ نَفْسٍ لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهَا - فَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مَالِكٍ ﵀: وُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالْقِصَاصِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَسَامَةِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْقَسَامَةِ، وَبَيَانِ مَحَلِّهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ أَمَّا تَفْسِيرُ الْقَسَامَةِ، وَبَيَانُ مَحَلِّهَا - فَالْقَسَامَةُ فِي اللُّغَةِ: تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَسَامَةِ، وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْجَمَالُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَسِيمٌ أَيْ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَفِي صِفَاتِ النَّبِيِّ ﵊ قَسِيمٌ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، وَهُوَ الْيَمِينُ إلَّا أَنَّ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ ﵎ بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ وَعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَعَلَى شَخْصٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ خَمْسُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِيهَا: بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عِلْمنَا لَهُ قَاتِلًا، فَإِذَا حَلَفُوا يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا ﵏ وَقَالَ مَالِكٌ ﵀: إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ يُسْتَحْلَفُ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا فَإِذَا حَلَفُوا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ عَلَامَةُ الْقَتْلِ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ يَكُونَ هُنَاكَ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀: إنْ كَانَ هُنَاكَ لَوْثٌ أَيْ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَكَانَ بَيْنَ دُخُولِهِ الْمَحَلَّةَ وَبَيْنَ وُجُودِهِ قَتِيلًا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ: عَيِّنْ الْقَاتِلَ، فَإِنْ عَيَّنَ الْقَاتِلَ يُقَالُ لِلْوَلِيِّ احْلِفْ خَمْسِينَ يَمِينًا، فَإِنْ حَلَفَ فَلَهُ قَوْلَانِ: فِي قَوْلٍ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ الَّذِي عَيَّنَهُ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ ﵀ وَفِي قَوْلٍ يُغَرِّمُهُ الدِّيَةَ، فَإِنْ عَدِمَ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِذَا حَلَفُوا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى احْتَجَّا لِوُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعِي بِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «وَجَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبِ خَيْبَرَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ وَعَمَّاهُ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﵊ فَقَالَ: ﵊ الْكُبْرَ الْكُبْرَ فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ: إمَّا حُوَيِّصَةُ وَإِمَّا مُحَيِّصَةُ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا وَجَدْنَا عَبْدَ اللَّهِ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قَلِيبِ خَيْبَرَ وَذَكَرَ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ لَهُمْ فَقَالَ: ﵊ يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَقَالَ: ﵊ فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَقَالُوا: كَيْفَ نُقْسِمُ عَلَى مَا لَمْ نَرَهُ فَوَدَاهُ ﵊ مِنْ عِنْدِهِ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ ﵊ عَرَضَ الْأَيْمَانَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فَدَلَّ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ ﵊ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ: ﵊ اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا؟ فَقَالَ: بَلْ لَكَ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ لَا عَلَى الْمُدَّعِي، وَعَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْقَسَامَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: «وُجِدَ قَتِيلٌ بِخَيْبَرَ فَقَالَ: ﵊ أُخْرُجُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ فَقَالَتْ الْيَهُودُ: قَدْ كَانَ وُجِدَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ سَيِّدِنَا مُوسَى ﵊ فَقَضَى فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَاقْضِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ ﵊ تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ فَقَالُوا: قَضَيْتَ بِالنَّامُوسِ» أَيْ بِالْوَحْيِ وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلَ مَالِكٍ ﵀ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﵊ غَرَّمَهُمْ الدِّيَةَ لَا الْقِصَاصَ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصَ لَغَرَّمَهُمْ الْقِصَاصَ لَا الدِّيَةَ وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ ﵁ حَكَمَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَطَرَحَهُ عَلَى أَقْرَبِهِمَا وَأَلْزَمَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ ﵁ وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ﵃ فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
(وَأَمَّا) حَدِيثُ سَهْلٍ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ؛ وَلِهَذَا ظَهَرَ النَّكِيرُ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute