للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَوْضِعِهَا، وَلَا إحْصَارَ بَعْدَ مَا قَدِمَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمَ إنْ كَانَ لَا يُمْنَعُ مِنْ الطَّوَافِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إنْ مُنِعَ مِنْ الطَّوَافِ، مَاذَا حُكْمُهُ؟ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ جَمِيعًا أَوْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ مُحْصَرٌ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُحْصَرًا بَعْدَ مَا دَخَلَ الْحَرَمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ عَدُوٌّ غَالِبٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ كَمَا حَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْصَرٌ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ، هَلْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ إحْصَارٌ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ: كَانَتْ مَكَّةُ إذْ ذَاكَ حَرْبًا، وَهِيَ الْيَوْمَ دَارُ إسْلَامٍ، وَلَيْسَ فِيهَا إحْصَارٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ مِنْ التَّفْصِيلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ أَوْ عَلَى الطَّوَافِ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُحْصَرًا، أَمَّا إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا ذَكَرْنَا.

وَأَمَّا إذَا كَانَ يَصِلُ إلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ إنَّمَا رُخِّصَ لِلْمُحْصَرِ لِتَعَذُّرِ الطَّوَافِ قَائِمًا مَقَامَهُ، بَدَلًا عَنْهُ، بِمَنْزِلَةِ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ الطَّوَافُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْوُصُولِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْإِحْصَارُ كَمَا يَكُونُ عَنْ الْحَجِّ يَكُونُ عَنْ الْعُمْرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا إحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِحْصَارَ لِخَوْفِ الْفَوْتِ، وَالْعُمْرَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَوْتَ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ وَقْتٌ لَهَا، فَلَا يُخَافُ فَوْتُهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَوْتَ فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ عَنْهُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] عَقِيبَ قَوْلِهِ ﷿: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِهِمَا فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ.

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ ﵃ حُصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، وَكَانُوا مُعْتَمِرِينَ فَنَحَرُوا هَدْيَهُمْ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ عُمْرَتَهُمْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ حَتَّى سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ فِي الْحَجِّ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّضَرُّرِ بِامْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ حُكْمُ الْإِحْصَارِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: جَوَازُ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْصَارِ وَالثَّانِي: وُجُوبُ قَضَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ.

أَمَّا جَوَازُ التَّحَلُّلِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ التَّحَلُّلِ، وَفِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ التَّحَلُّلِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّحَلُّلُ: هُوَ فَسْخُ الْإِحْرَامِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ لَهُ شَرْعًا وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] وَفِيهِ إضْمَارٌ وَمَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْهَدْيِ، إذْ الْإِحْصَارُ نَفْسُهُ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا كَمَا كَانَ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦] مَعْنَاهُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَإِلَّا فَكَوْنُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ.

وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] مَعْنَاهُ: فَأَفْطَرَ؛ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُوجِبُ الصَّوْمَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.

وَكَذَا قَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] مَعْنَاهُ: فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الِاضْطِرَارِ لَا يُوجِبُ الْإِثْمَ كَذَا هَهُنَا؛ وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّحَلُّلِ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ لَبَقِيَ مُحْرِمًا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ.

وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ، أَوْ عَنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالْمُحْصَرُ نَوْعَانِ:.

نَوْعٌ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ، وَنَوْعٌ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ الْهَدْيِ.

أَمَّا الَّذِي لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ: فَكُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً، أَوْ مُنِعَ مِنْهُ شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَذَا لَا يَتَحَلَّلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>