لِقَوْلِهِ ﵊: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي - يُقَامُ الْكُلُّ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا - فَنَقُولُ: إذَا اجْتَمَعَ الْقَذْفُ وَالشُّرْبُ وَالسُّكْرُ وَالزِّنَا مِنْ غَيْرِ إحْصَانٍ - وَالسَّرِقَةُ - بِأَنْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا، وَشَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ، وَزَنَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَسَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ؛ بَدَأَ الْإِمَامُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَيَضْرِبُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - مِنْ وَجْهٍ، وَمَا سِوَاهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ عَلَى الْخُلُوصِ فَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي حُقُوقَ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا.
وَلَيْسَ فِي إقَامَةِ شَيْءٍ مِنْهَا إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَلَا يَسْقُطُ، ثُمَّ إذَا ضُرِبَ حَدَّ الْقَذْفِ - يُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الضَّرْبِ، ثُمَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي الْبِدَايَةِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا، وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ، وَيُؤَخِّرُ حَدَّ الشُّرْبِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا ثَبَتَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَحَدُّ الشُّرْبِ لَمْ يَثْبُتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، إنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاجْتِهَادِ أَوْ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ آكَدُ ثُبُوتًا، وَلَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، بَلْ يُقَامُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ مَا بَرَأَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْكُلِّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ.
وَلَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ حَدُّ الرَّجْمِ، بِأَنْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ - يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ، وَيُرْجَمُ، وَيُدْرَأُ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَفِي إقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَيُقَامُ دَرْءًا لِلْبَوَاقِي؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ الدَّرْءِ مَا أَمْكَنَ؛ فَيُدْرَأُ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّرْءَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ هَذِهِ الْحُدُودِ قِصَاصٌ فِي النَّفْسِ - يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا، وَيُدْرَأُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا بُدِئَ بِحَدِّ الْقَذْفِ دُونَ الْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ إسْقَاطَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ؛ لِذَلِكَ يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيَبْطُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ، إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ كَانَ مَعَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ - يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَيُقْتَصُّ فِي النَّفْسِ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُدُودِ حَدُّ الْقَذْفِ وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، ثُمَّ يُقْتَصُّ فِي النَّفْسِ، وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ، وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ وَالْقَتْلُ يُقْتَصُّ وَيُلْغَى مَا سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُدُودِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَاجِبٌ، وَمَتَى قُدِّمَ اسْتِيفَاؤُهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ؛ فَتَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمَحْدُودِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حُكْمُ الْمَحْدُودِ فَالْحَدُّ إنْ كَانَ رَجْمًا فَإِذَا قُتِلَ - يُدْفَعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَصْنَعُونَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِسَائِرِ الْمَوْتَى، فَيُغَسِّلُونَهُ وَيُكَفِّنُونَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنُونَهُ، بِهَذَا «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزًا فَقَالَ ﵊: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ» ، وَإِنْ كَانَ جَلْدًا فَحُكْمُ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا، إلَّا الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ خَاصَّةً فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، حَتَّى لَا تُقْبَلَ، وَإِنْ تَابَ إلَّا فِي الدِّيَانَاتِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ﵀ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ - وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَفُرُوعَهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ - وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[فَصَلِّ فِي التَّعْزِير]
[بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ التَّعْزِيرِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ التَّعْزِيرِ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهِ، وَفِي بَيَانِ وَصْفِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَظْهَرُ بِهِ.
(أَمَّا) سَبَبُ وُجُوبِهِ فَارْتِكَابُ جِنَايَةٍ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فِي الشَّرْعِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ بِأَنْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِفِعْلٍ أَوْ بِقَوْلٍ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: يَا خَبِيثُ، يَا فَاسِقُ، يَا سَارِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا كَافِرُ، يَا آكِلَ الرِّبَا، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا حِمَارُ يَا ثَوْرُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنَّمَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِالْمَقْذُوفِ، إذْ النَّاسُ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ فَعُزِّرَ؛ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ، وَالْقَاذِفُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي أَلْحَقَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ بِقَذْفِهِ غَيْرَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ؛ فَيَرْجِعُ عَارُ الْكَذِبِ إلَيْهِ لَا إلَى الْمَقْذُوفِ.
[فَصْلٌ فِي شَرْطِ وُجُوبِ التَّعْزِيرِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْعَقْلُ فَقَطْ؛ فَيُعَزَّرُ كُلُّ عَاقِلٍ ارْتَكَبَ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ، إلَّا الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ فَإِنَّهُ