﵊ دَعَاهُمْ إلَى أَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِهِمْ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ مَعَ مَا أَنَّ رِضَا الْمُدَّعِي لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ قَالُوا: كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ نَشْهَدْ، وَهَذَا أَيْضًا يَجْرِي مَجْرَى الرَّدِّ لِقَوْلِهِ ﵊ ثُمَّ إنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ اسْتَخَارَ عَرْضَ الْيَمِينِ عَلَيْهِمْ، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ، وَتَأْوِيلُهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُمْ ﵊ يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَيَحْلِفُ؟ إذْ الِاسْتِفْهَامُ قَدْ يَكُونُ بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: ٦٧] أَيْ أَتُرِيدُونَ كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ سَهْلٍ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ ﵎ ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ ﵊ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْهُ ﵊ أَنَّهُ قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ» اسْتَثْنَى الْقَسَامَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ - فَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ ثَبَتَ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَنْ لَمْ يُدَّعَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِعَيْنِهِ، وَالثَّانِي: الْيَمِينُ كُلُّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ فَإِنَّهُ تَجِبُ مَعَهَا الدِّيَةُ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا جَمَعْنَا فِي الْقَسَامَةِ بَيْنَ الْيَمِينِ الْبَتَاتِ وَالْعِلْمِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ كَانَتْ عَلَى فِعْلِهِمْ، فَكَانَتْ عَلَى الْبَتَاتِ، وَالْأُخْرَى عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَتْ عَلَى الْعِلْمِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى ﷿ أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ، وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ قَالَ ﵊ «لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ وَقَالَ ﵊ لَا شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ» ؟ قِيلَ: إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى الْعِلْمِ إتْبَاعًا لِلسَّنَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَاتَّبَعْنَا السُّنَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْقِلَ فِيهِ الْمَعْنَى، ثُمَّ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ صَحِيحٌ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ أَفْدِهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ مُفِيدًا، وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ، وَيُصَدِّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ ثُمَّ بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالَيْنِ عَبْدٌ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ ﵊ «كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ» إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ مِرْآة لِلْكَفَرَةِ بِقَوْلِهِ ﵊ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهِ» ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثُمَّ بَقِيَ الرَّمَلُ سَنَةً فِي الطَّوَافِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ ﵁ كَانَ يَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ، وَيَقُولُ مَا أَهُزُّ كَتِفِي، وَلَا أَحَدًا رَأَيْتُهُ لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَذَا هَذَا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلِمْتَ لَهُ قَاتِلًا، وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُفِيدًا وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ قَتِيلًا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ أَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ، وَلَا دِيَةَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهُ قُتِلَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرُ الْقَتْلِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا حَتَّى يُغَسَّلَ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إذَا وُجِدَ وَالدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ أَوْ مِنْ أَنْفِهِ أَوْ مِنْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً بِدُونِ الضَّرْبِ بِسَبَبِ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَعَارِضٍ آخَرَ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ قَتِيلًا، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الدَّمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute