للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَرْسَلَهُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلثَّانِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْيَدِ لِلْمُرْسِلِ فَصَارَ وَاجِبَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْمِلْكِ الثَّانِي، كَمَا إذَا قَالَ: دَفَعَ إلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفَ فُلَانٌ وَهِيَ لِفُلَانٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَوْ قَالَ الْخَيَّاطُ: هَذَا الثَّوْبُ الَّذِي فِي يَدِي لِفُلَانٍ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فُلَانٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شَيْئًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا هَلَكَ فِي يَدِهِ عِنْدَهُ فَأَشْبَهَ الْوَدِيعَةَ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ، وَاَللَّهُ الْعَلِيمُ.

[فَصْلٌ فِي الْقَرِينَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي رُكْن الْإِقْرَار]

(فَصْلٌ) :

(وَأَمَّا) الْقَرِينَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بِأَنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ هَذَا وَذَاكَ قَبْلَ وُجُودِ الْقَرِينَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ يَتَعَيَّنُ الْبَعْضُ مُرَادًا بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَصْلًا ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ يَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا كَانَ أَوْ مُنْفَصِلًا.

وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا ضَرْبُ رُجْحَانٍ فَإِنْ كَانَ الْإِفْهَامُ إلَيْهِ أَسْبَقَ عِنْد الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ الرُّجُوعَ، وَإِنْ تَضَمَّنَ مَعْنَى الرُّجُوعِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَرِينَةِ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى وَصْفِ الْمُقَرِّ بِهِ، وَنَوْعٌ يَدْخُلُ عَلَى قَدْرِ الْمُقَرِّ بِهِ (أَمَّا) الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ الْمُقَرِّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولَ الذَّاتِ بِأَنْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَوْ جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالْأَرْشِ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ إخْبَارًا عَنْ الْمُخْبِرِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَهُوَ حَدُّ الصِّدْقِ.

بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالشَّهَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ وَيُقَالُ لَهُ بَيِّنْ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨] ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٩] وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا لِأَنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَصْلُ كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكَ لَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ إذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً وَإِمَّا إنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ.

فَإِنْ صَدَّقَهُ فِيمَا بَيَّنَ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عَلَيْهَا إنْ أَرَادَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى مَالٍ آخَرَ وَإِلَّا حَلَّفَهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَدْرَ الْمُبَيَّنَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ إقْرَارَهُ لَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا وَلَمْ يُبَيِّنْ يَلْزَمُهُ الْبَيَانُ لِمَا قُلْنَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ وَأَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا يَتَمَانَعُ فِي الْعَادَةِ وَيُقْصَدُ بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَانَعُ عَادَةً وَلَا يُقْصَدُ غَصْبُهُ نَحْوُ كَفٍّ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ الْغَصْبِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ: لَا يُشْتَرَطُ، وَقَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّهُ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا أَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ أَوْ خَمْرَ مُسْلِمٍ يُصَدَّقُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ الْآخَرِينَ حَتَّى يُبَيِّنَ شَيْئًا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ (وَجْهُ) قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَهَذَا لَا يَقِفُ عَلَى كَوْنِ الْمَغْصُوبِ مَالًا مُتَقَوِّمًا (وَجْهُ) قَوْلِ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَهُ ضَمَانَانِ: أَحَدُهُمَا وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالثَّانِي وُجُوبُ قِيمَتِهَا عِنْدَ الْعَجْزِ فَكَانَ إقْرَارُهُ بِغَصْبِ شَيْءٍ إقْرَارًا بِغَصْبِ مَا يَحْتَمِلُ مُوجِبُهُ وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ وَلَوْ بَيَّنَ غَصْبَ الْعَقَارِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ مَضْمُونُ الْقِيمَةِ أَيْضًا فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَشَايِخِنَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُصَدَّقُ (وَأَمَّا) عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونِ الْقِيمَةِ بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ يُصَدَّقُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمُ مَا يُتَمَوَّلُ وَذَا يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فَالْبَيَانُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>