للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا أَصْلِيًّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا عِنْدَهُ.

[فَصْلٌ أَرْكَان الصِّيَام]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا رُكْنُهُ: فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْلَ، وَالشُّرْبَ، وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ [البقرة: ١٨٧] إلَى قَوْله ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: ١٨٧] أَيْ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ ضَوْءُ النَّهَارِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ مِنْ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي النَّهَارِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] فَدَلَّ أَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ مَا قُلْنَا فَلَا يُوجَدُ الصَّوْمُ بِدُونِهِ.

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيَنْقُضُهُ لِأَنَّ انْتِقَاضَ الشَّيْءِ عِنْدَ فَوَاتِ رُكْنِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَذَلِكَ بِالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لَا مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً وَسَوَاءٌ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ بِعُذْرٍ وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً طَوْعًا، أَوْ كَرْهًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَا نَاسِيًا وَلَا فِي مَعْنَى النَّاسِي،، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ ضِدِّ الرُّكْنِ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ لَقُلْتُ يَقْضِي أَيْ: لَوْلَا قَوْلُ النَّاسِ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَ الْأَمْرَ لَقُلْتُ: يَقْضِي لَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ ﷿ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ» حَكَمَ بِبَقَاءِ صَوْمِهِ وَعَلَّلَ بِانْقِطَاعِ نِسْبَةِ فِعْلِهِ عَنْهُ بِإِضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِوُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا قَضَاءَ عَلَى النَّاسِي لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْأَثَرِ أَوْلَى إذَا كَانَ صَحِيحًا، وَحَدِيثٌ صَحَّحَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فِيهِ مَطْعَنٌ.

وَكَذَا انْتَقَدَهُ أَبُو يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ: وَلَيْسَ حَدِيثًا شَاذًّا نَجْتَرِئُ عَلَى رَدِّهِ، وَكَانَ مِنْ صَيَارِفَةَ الْحَدِيثِ.

وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ فِي بَاب الصَّوْمِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَّا بِحَرَجٍ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.

وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَبَيْنَ الْجِمَاعِ نَاسِيًا، فَقَالَا: يَفْسُدُ صَوْمُهُ فِي الْجِمَاعِ وَلَا يَفْسُدُ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ لِفَوَاتِ رُكْنِ الصَّوْمِ فِي الْكُلِّ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَبَقِيَ الْجِمَاعُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّا نَقُولُ: نَعَمْ الْحَدِيثُ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّهُ فِعْلٌ مُضَافٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقِ التَّمْحِيصِ بِقَوْلِهِ " فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ " قَطَعَ إضَافَتَهُ عَنْ الْعَبْدِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْكُلِّ،، وَالْعِلَّةُ إذَا كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا كَانَ الْحُكْمُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَيَتَعَمَّمُ الْحُكْمُ بِمَعْمُومِ الْعِلَّةِ

وَكَذَا مَعْنَى الْحَرَجِ يُوجَدُ فِي الْكُلِّ.

وَلَوْ أَكَلَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّك صَائِمٌ وَهُوَ لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ زُفَرَ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا فَلَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ.

وَلَوْ دَخَلَ الذُّبَابُ حَلْقَهُ لَمْ يُفْطِرْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ النَّاسِيَ وَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فَطَّرَهُ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَمَا لَوْ أَكَلَ التُّرَابَ.

وَلَوْ دَخَلَ الْغُبَارُ أَوْ الدُّخَانُ أَوْ الرَّائِحَةُ فِي حَلْقَةِ لَمْ يُفْطِرْهُ، لِمَا قُلْنَا.

وَكَذَا لَوْ ابْتَلَعَ الْبَلَلَ الَّذِي بَقِيَ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ فِي فَمِهِ مَعَ الْبُزَاقِ أَوْ ابْتَلَعَ الْبُزَاقَ الَّذِي اجْتَمَعَ فِي فَمِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ حَلْقَهُ مُتَعَمِّدًا، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَوَفَّقَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ، أَوْ أَكْثَرَ يُفْسِدُ صَوْمَهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْمَذْكُورُ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ يَسِيرٌ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، فَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّيقِ، فَيُشْبِهُ النَّاسِي وَلَا كَذَلِكَ قَدْرُ الْحِمَّصَةِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ بَيْنَ الْأَسْنَانِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا يُلْحَقُ بِالنَّاسِي.

وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ، وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّهُ أَكَلَ مَا هُوَ مَأْكُولٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ فَأَشْبَهَ اللَّحْمَ الْمُنْتِنَ وَلَنَا أَنَّهُ أَكَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إذْ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْغِذَاءُ وَلَا الدَّوَاءُ.

فَإِنْ تَثَاءَبَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ أَوْ مَاءٌ صُبَّ فِي مِيزَابٍ فَطَّرَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>