للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَبْرُهَا بِثَوْبٍ وَنَعْشٍ عَلَى جِنَازَتِهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى السَّتْرِ، فَلَوْ لَمْ يُسَجَّ رُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فَيَقَعُ بَصَرُ الرِّجَالِ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا يُوضَعُ النَّعْشُ عَلَى جِنَازَتِهَا دُونَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ.

وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِإِدْخَالِ الْمَرْأَةِ الْقَبْرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَسُّهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ لِلْوَضْعِ.

وَأَمَّا قَبْرُ الرَّجُلِ فَلَا يُسَجَّى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسَجَّى احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ أَقْبَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَسَجَّى قَبْرَهُ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ يُدْفَنُ، وَقَدْ سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَقَالَ: إنَّهُ رَجُلٌ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَا تُشَبِّهُوهُ بِالنِّسَاءِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِّيَ؛ لِأَنَّ الْكَفَنَ لَا يَعُمُّهُ فَسُتِرَ الْقَبْرُ حَتَّى لَا يَبْدُوَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِضَرُورَةٍ أُخْرَى مِنْ دَفْعِ مَطَرٍ أَوْ حَرٍّ عَنْ الدَّاخِلِينَ فِي الْقَبْرِ، وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.

وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُرَبَّعُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَبَّعُ وَيُسَطَّحُ لِمَا رَوَى الْمُزَنِيّ بِإِسْنَادِهِ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ جَعَلَ قَبْرَهُ مُسَطَّحًا» ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَجَعَلَ لَهُ لَحْدًا وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا؛ وَلِأَنَّ التَّرْبِيعَ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّشْبِيهُ بِهِمْ فِيمَا مِنْهُ بُدٌّ مَكْرُوهٌ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ جَعَلَ التَّسْنِيمَ فِي وَسَطِهِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَمِقْدَارُ التَّسْنِيمِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا مِنْ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ، أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا.

وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ وَتَطْيِينُهُ وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ وَأَنْ يُعَلَّمَ بِعَلَامَةٍ، وَكَرِهَ أَبُو يُوسُفَ الْكِتَابَةَ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُجَصِّصُوا الْقُبُورَ وَلَا تَبْنُوا عَلَيْهَا وَلَا تَقْعُدُوا وَلَا تَكْتُبُوا عَلَيْهَا» ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الزِّينَةِ وَلَا حَاجَةَ بِالْمَيِّتِ إلَيْهَا؛ وَلِأَنَّهُ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِلَا فَائِدَةٍ فَكَانَ مَكْرُوهًا.

وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى تُرَابِ الْقَبْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ.

بَأْسَ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ تَسْوِيَةٌ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ الرَّشَّ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ التَّطْيِينَ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ يُوطَأَ عَلَى قَبْرٍ، أَوْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ، أَوْ يُنَامَ عَلَيْهِ أَوْ تُقْضَى عَلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْقُبُورِ» .

وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ» قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ بَيْنَ الْقُبُورِ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهَانِ ذَلِكَ، وَإِنْ صَلَّوْا أَجْزَأَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ بَيْنَ مَقَابِرِ الْبَقِيعِ، وَالْإِمَامُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَفِيهِمْ ابْنُ عُمَرَ .

بَأْسَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالدُّعَاءِ لِلْأَمْوَاتِ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ وَطْءِ الْقُبُورِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ : «إنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» ، وَلِعَمَلِ الْأُمَّةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا.

[فَصْلٌ أَحْكَامُ الشَّهِيدِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا الشَّهِيدُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ:.

أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَنْ يَكُونُ شَهِيدًا فِي الْحُكْمِ، وَمَنْ لَا يَكُونُ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبُنِيَ عَلَى شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْتُولًا حَتَّى لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ، أَوْ احْتَرَقَ بِالنَّارِ، أَوْ مَاتَ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ غَرِقَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْتُولٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا قُتِلَ كُلُّهُمْ بِسِلَاحٍ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ، وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا نَذْكُرُ.

وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا حَتَّى لَوْ قُتِلَ بِحَقٍّ فِي قِصَاصٍ أَوْ رُجِمَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ قُتِلُوا مَظْلُومِينَ وَرُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ جَاءَ عَمُّهُ إلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: قُتِلَ مَاعِزٌ، كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ : لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ، وَكَفِّنْهُ، وَصَلِّ عَلَيْهِ» .

وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ عَدَا عَلَى قَوْمٍ ظُلْمًا فَقَتَلُوهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَكَذَا لَوْ

<<  <  ج: ص:  >  >>