وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْبَابُ مُرَادًا بِهِ؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ فَظَهَرَ مَثْنَى مَثْنَى مِنْ لَدُنْ عُمَرَ ﵁ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا «سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: كَانَ قِيَامُهُ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ» ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَتْ الْحَدِيثَ وَكَلِمَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَادَةِ، وَالْمُوَاظَبَةِ وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُوَاظِبُ إلَّا عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْأَرْبَعِ فَائِدَةٌ؛ وَلِأَنَّ الْوَصْلَ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ فَصَلَّى بِتَسْلِيمَتَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ كَمَا فِي صِفَةِ التَّتَابُعِ فِي بَابِ الصَّوْمِ، ثُمَّ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا أَفْضَلُ فَكَذَا الصَّلَاةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ فَسَلَّمَ أَيْ: فَتَشَهَّدَ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّاتِ تُسَمَّى تَشَهُّدًا لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهَادَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَكَذَا تُسَمَّى تَسْلِيمًا لِمَا فِيهَا مِنْ التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِ: " السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ " وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَالتَّسْلِيمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا جَازَ، أَمَّا التَّشَهُّدُ فَوَاجِبٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، فَأَمَّا التَّرَاوِيحُ فَإِنَّمَا تُؤَدَّى مَثْنَى مَثْنَى؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَتُؤَدَّى عَلَى وَجْهِ السُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْمَرِيضِ وَذِي الْحَاجَةِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ وَحْدَهُ.
[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ، فَالْمَكْرُوهُ مِنْهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَدْرِ فَأَمَّا فِي النَّهَارِ فَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي اللَّيْلِ لَا تُكْرَهُ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا، ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ إنْ شِئْت فَصَلِّ بِتَكْبِيرَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَرْبَعًا، وَإِنْ شِئْت سِتًّا وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتْ الْفَرَائِضَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْلِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ إلَى الثَّمَانِ، أَوْ إلَى السِّتِّ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ سَبْعَ رَكَعَاتٍ تِسْعَ رَكَعَاتٍ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَالثَّلَاثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٍ فَيَجُوزُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ بَعْضُهُمْ؛ لَا يُكْرَهُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ السَّرَخْسِيُّ ﵀ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَهَذَا يُشْكِلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ.
وَلَوْ زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ أَوْ عَلَى الثَّمَانِ فِي اللَّيْلِ يَلْزَمُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ اللُّزُومِ وَهُوَ الشُّرُوعُ.
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي التَّطَوُّعِ طُولُ الْقِيَامِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْمَثْنَى عَلَى حَسَبِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ أَمْ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا طُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ طُولَ الْقُنُوتِ أَفْضَلُ أَمْ كَثْرَةُ السُّجُودِ؟ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ» أَيْ: الْقِيَامِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨] : إنَّ الْقُنُوتَ طُولُ الْقِيَامِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٩] وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا يَخْتَلِفُ وَيُضَمُّ إلَيْهِ زِيَادَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ.
أَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْوَقْتِ فَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ: أَحَدُهَا مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ، وَالثَّانِي عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إلَى أَنْ تَزُولَ، وَالثَّالِثُ عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ وَهُوَ احْمِرَارُهَا، وَاصْفِرَارُهَا إلَى أَنْ تَغْرُبَ.
فَفِي هَذِهِ