لِأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فَيَسْقُطَ الْقَطْعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا قَبِيحٌ فَمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِثْلُهُ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ: - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي تَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَيِّنَةُ، وَالثَّانِي: الْإِقْرَارُ.
أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَتَظْهَرُ بِهَا السَّرِقَةُ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا؛ لِأَنَّهَا خَبَرٌ يُرَجَّحُ فِيهِ جَنَبَةُ الصِّدْقِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ فَيَظْهَرُ الْمُخْبَرُ بِهِ، وَشَرَائِطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ فِي بَابِ السَّرِقَةِ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبَيِّنَاتِ كُلَّهَا، قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَبْوَابَ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَهُوَ الذُّكُورَةُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَلَا شَهَادَةُ الْفُسَّاقِ، وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ زِيَادَةَ شُبْهَةٍ، لَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا فِيمَا يُحْتَالُ لِدَفْعِهِ، وَيُحْتَاطُ لِدَرْئِهِ، وَكَذَا عَدَمُ تَقَادُمِ الْعَهْدِ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَالْقِصَاصِ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ بَعْد حِينٍ لَمْ تُقْبَلْ وَلَا يُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ، وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّقَادُمَ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَلَا يُبْطِلُهَا عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَلَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ أَيْضًا.
وَالْفَرْقُ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ؛ لِأَنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ، وَهُوَ الْخُصُومَةُ، وَالدَّعْوَى مِمَّنْ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ، حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَسْرُوقُ، مِنْهُ وَيُخَاصِمُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالْخُصُومَةِ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْخُصُومَةُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ السَّارِقُ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ أَوْرَثَ تُهْمَةً، وَيَجُوزُ الْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سَرِقَةِ عَبْدِهِ مَالَ إنْسَانٍ، وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: يُشْتَرَطُ حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ﵀ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ بِالسَّرِقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ حَضْرَتِهِ، كَمَا لَا تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ سَائِرِ الْأَجَانِبِ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ نَفَذَ إقْرَارُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ -: أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُقْضَى بِهَا مَعَ غِيبَةِ الْمَوْلَى كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى مِلْكِ شَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَادَّعَى شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ مَا أَمْكَنَ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا وَقَعَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى رَدَّهُ بِوَجْهٍ فَلَمْ تَتَمَكَّنْ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ بِالنُّكُولِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ سَرِقَةً فَأَنْكَرَ فَاسْتُخْلِفَ فَنَكَلَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ، وَيُقْضَى بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْبَدَلِ.
وَالْقَطْعُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ، وَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى إقْرَارٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ؛ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا مِنْ طَرِيقِ السُّكُوتِ لَا صَرِيحًا، وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ.
(وَأَمَّا) الْإِقْرَارُ فَتَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَتَظْهَرَ بِهِ السَّرِقَةُ، كَمَا تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ، وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُتَّهَمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَا لَا يُتَّهَمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عَبْدًا مَأْذُونًا، أَوْ مَحْجُورًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ ﵀ لَا يُقْطَعُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ مَأْذُونًا، أَوْ مَحْجُورًا، وَالْمَالُ قَائِمٌ، أَوْ هَالِكٌ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا؛ يُقْطَعُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَالُ هَالِكًا، أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فِي إقْرَارِهِ، أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا فَهُوَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ زُفَرُ ﵀: لَا يُقْطَعُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى، وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مَالِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالُ مَوْلَاهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى.
(وَلَنَا) أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَضَرَرُ الْعَبْدِ أَعْظَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ فَيُقْبَلَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي يَدِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، كَمَا لَا مِلْكَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فِي حَقِّ الْقَتْلِ، فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ كَالْحُرِّ، وَبِهِ