عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ بِنَفْسِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ، وَاعْتِبَارُ هَذَا الْقَيْدِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ رُكُوبًا وَلُبْسًا، فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فِيهِ، فَإِنْ فَعَلَ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَالَفَ، وَإِنْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ وَأَرْدَفَ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ؛ مِمَّا تُطِيقُ حَمْلَهُمَا جَمِيعًا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ إلَّا فِي قَدْرِ النِّصْفِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ حَمْلَهُمَا ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا، وَلَوْ أَعَارَهُ دَارًا لِيَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالْعَقْدِ السُّكْنَى، وَالنَّاسُ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ عَادَةً فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِسُكْنَاهُ مُفِيدًا فَيَلْغُو، إلَّا إذَا كَانَ الَّذِي يُسْكِنُهَا إيَّاهُ حَدَّادًا أَوْ قَصَّارًا وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ يُوهِنُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا إيَّاهُ، وَلَا أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ عَادَةً، وَالْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَلَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ أَثْقَلُ مِنْ الشَّعِيرِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ مُفِيدًا فَيُعْتَبَرُ، وَلَوْ أَعَارَهَا عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرًا أَوْ دُخْنًا أَوْ أُرْزًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ أَوْ أَخَفَّ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ، حَتَّى أَنَّهَا لَوْ عَطِبَتْ لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ، وَجَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافًا صُورَةً فَلَيْسَ بِخِلَافٍ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ دَلَالَةً فَلَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِالْحِنْطَةِ مُفِيدًا، وَصَارَ كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ حِنْطَةِ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ حِنْطَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا حَتَّى لَا يَضْمَنَ، كَذَا هَذَا، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ تِبْنًا أَوْ آجُرًّا أَوْ حَدِيدًا أَوْ حِجَارَةً سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَهَا فِي الْوَزْنِ أَوْ أَخَفَّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَقُّ عَلَى الدَّابَّةِ أَوْ أَنْكَى لِظَهْرِهَا أَوْ أَعْقَرَ، وَلَوْ فَعَلَ حَتَّى عَطِبَتْ ضَمِنَ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مِائَةً مِنْ قُطْنٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَهُ مِنْ الْحَدِيدِ وَزْنًا فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، فَكَانَ ضَرُورَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الْحَدِيدِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ ضَرُورَةً بِالدَّابَّةِ أَكْثَرَ وَالرِّضَا بِأَدْنَى الضَّرَرَيْنِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَعْلَاهُمَا، فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُهُ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْقَدْرِ فَعَطِبَتْ نُظِرَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ حَمْلَهَا، يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ حَمْلَ مَا لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ إتْلَافٌ لِلدَّابَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ مِمَّا تُطِيقُ حَمْلَهَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَتِهَا قَدْرَ الزِّيَادَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ مِنْهَا إلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَلَوْ قَيَّدَهَا بِالْمَكَانِ، بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَسْتَعْمِلَهَا فِي مَكَانِ كَذَا فِي الْمِصْرِ يَتَقَيَّدُ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ بِأَيِّ شَيْءٍ شَاءَ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِالْمَكَانِ فَبَقِيَ مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ، لَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجَاوِزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، حَتَّى لَوْ جَاوَزَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَلَوْ أَعَادَهَا إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ مِنْ قَبْلِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَالِكِ يَضْمَنُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - الْآخَرُ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ كَالْمُودِعِ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاق ثُمَّ رَجَعَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَهَا بِالزَّمَانِ بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا يَوْمًا يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ، لَكِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ، حَتَّى لَوْ مَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ حَتَّى هَلَكَتْ يَضْمَنُ، لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَهَا بِالْحَمْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَهَا بِالِاسْتِعْمَالِ، بِأَنْ قَالَ: عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا حَتَّى لَوْ أَمْسَكَهَا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا حَتَّى هَلَكَتْ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْهُ خِلَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعِيرُ أَوْ الْمُسْتَعِيرُ فِي الْأَيَّامِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ فِيمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَفِيدُ مِلْكَ الِانْتِفَاعِ مِنْ الْمُعِيرِ، فَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْمِقْدَارِ وَالتَّعْيِينِ قَوْلَهُ، لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ.
[فَصْلٌ فِي صِفَةُ الْحُكْمِ فِي الْإِعَارَة]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْهِبَةِ، فَكَانَ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْعَارِيَّةَ أَوْ وَقَّتَ لَهَا وَقْتًا، وَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَعَارَ مِنْ آخَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا، ثُمَّ بَدَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ مُطْلَقَةً أَوْ مُوَقَّتَةً، لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّهَا إنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute