للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ عَلَى مَا مَرَّ وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ مُوَقَّتٍ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِهِ، وَتَخْصِيصُ جَوَازِهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ.

وَمِنْهَا أَنَّ التَّطَوُّعَ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَالْفَرْضُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِي مَوْضِعِهِ،.

وَمِنْهَا أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ يَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ دُونَ التَّطَوُّعَاتِ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَائِتَةً مَكْتُوبَةً لَمْ يَفْسُدْ تَطَوُّعُهُ.

وَلَوْ كَانَ فِي الْفَرْضِ تَفْسُدُ الْفَرِيضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْفَرْضِ كَوْنُهُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَيْسَ لِلتَّطَوُّعِ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ يَنْقَلِبُ فَرْضُهُ تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا، فَإِذَا تَذَكَّرَ فِي التَّطَوُّعِ لَأَنْ يَبْقَى تَطَوُّعًا وَلَا يَبْطُلُ كَانَ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَالْكَلَامُ فِي الْجَنَائِزِ يَقَعُ فِي الْأَصْلِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالثَّانِي فِي تَكْفِينِهِ، وَالثَّالِثُ فِي حَمْلِ جِنَازَتِهِ، وَالرَّابِعُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالْخَامِسُ فِي دَفْنِهِ، وَالسَّادِسُ فِي الشَّهِيدِ وَقَبْلَ أَنْ نَشْتَغِلَ بِبَيَانِ ذَلِكَ نَبْدَأُ بِمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ بِالْمَرِيضِ الْمُحْتَضَرِ وَمَا يُفْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى أَنْ يُغَسَّلَ فَنَقُولُ: إذَا اُحْتُضِرَ الْإِنْسَانُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، كَمَا يُوَجَّهُ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَيُضْجَعُ كَمَا يُضْجَعُ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ، وَيُلَقَّنُ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَيِّتِ الْمُحْتَضَرُ؛ لِأَنَّهُ قَرُبَ مَوْتُهُ فَسُمِّيَ مَيِّتًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْمَوْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] .

وَإِذَا قَضَى نَحْبَهُ تُغْمَضُ عَيْنَاهُ، وَيُشَدُّ لَحْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ لَصَارَ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ فِي نَظَرِ النَّاسِ كَالْمُثْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ «أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَغَمَّضَهُ» وَلَا بَأْسَ بِإِعْلَامِ النَّاسِ بِمَوْتِهِ مِنْ أَقْرِبَائِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ لِيُؤَدُّوا حَقَّهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّشْيِيعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ «أَنَّهُ قَالَ فِي الْمِسْكِينَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ إذَا مَاتَتْ فَآذِنُونِي» ؛ وَلِأَنَّ فِي الْإِعْلَامِ تَحْرِيضًا عَلَى الطَّاعَةِ وَحَثًّا عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالتَّسَبُّبِ إلَى الْخَيْرِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: ٢] وَقَالَ النَّبِيُّ «الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ النِّدَاءُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَحَالِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ عَزَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْرَعَ فِي جِهَازِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «عَجِّلُوا بِمَوْتَاكُمْ فَإِنْ يَكُ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَإِنْ يَكُ شَرًّا فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» نَدَبَ النَّبِيُّ إلَى التَّعْجِيلِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى فَيُبْدَأُ بِغُسْلِهِ.

[فَصْلٌ الْغُسْلِ]

(فَصْلٌ) :

وَالْكَلَامُ فِي الْغُسْلِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُغَسِّلُ وَمَنْ لَا يُغَسِّلُ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَى: كَلِمَةُ إيجَابٍ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ قَالَتْ لِوَلَدِهِ هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ، وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَكَذَا النَّاسُ تَوَارَثُوا ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَكَانَ تَارِكُهُ مُسِيئًا لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَارَثَةَ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِهِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ كَرَامَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ.

وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ، وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غُسْلُهُ كُلُّهُ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِغُسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ حَالَةَ الْحَيَاةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِغَلَبَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، حَتَّى إنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ لَمَّا كَانَ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لَمْ يُكْتَفَ فِيهِ إلَّا بِالْغُسْلِ وَلَا حَرَجَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَوَجَبَ غُسْلُ الْكُلِّ.

وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: إنَّ بِالْمَوْتِ يَتَنَجَّسُ الْمَيِّتُ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا غُسِّلَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ كَرَامَةً لَهُ فَكَانَتْ الْكَرَامَةُ عِنْدَهُمْ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>