الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ إنَّمَا صَحَّ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ، وَالْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لِوُجُودِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ عَلَى الْمَوْلَى لِلْحَالِ لِحَقِّهِ فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُؤَاخَذُ بِهِ وَكَذَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ.
وَكَذَلِكَ الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَالْمَرَضُ لَيْسَ بِمَانِعٍ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الصَّحِيحِ بِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَالُ الْمَرِيضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ فَكَانَ إقْرَارُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَّهَمًا فِي إقْرَارِهِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تُخِلُّ بِرُجْحَانِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ شَهَادَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: ١٣٥] وَالشَّهَادَةُ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارٌ دَلَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ شَهَادَةٌ وَأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ.
وَفُرُوعُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَأْتِي فِي خِلَالِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا الطَّوْعُ حَتَّى لَا يَصِحَّ إقْرَارُ الْمُكْرَهِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مَعْلُومًا حَتَّى لَوْ قَالَ: رَجُلَانِ لِفُلَانٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ، لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا: غَصَبَ وَاحِدٌ مِنَّا، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: وَاحِدٌ مِنَّا زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَ الْأَقَارِيرِ دُونَ الْبَعْضِ فَمَعْرِفَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْمُقَرِّ بِهِ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى - إنَّ الْمُقَرَّ بِهِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - وَالثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ أَمَّا حَقُّ اللَّهِ ﷾ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ، وَلِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا شَرَائِطُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ.
[فَصْلٌ أَنْوَاع الْمُقِرّ بِهِ وَمِنْهَا حَقُّ الْعَبْدِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَالُ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعَدَدِ وَمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْعِبَارَةِ حَتَّى إنَّ الْأَخْرَسَ إذَا كَتَبَ الْإِقْرَارَ بِيَدِهِ أَوْ أَوْمَأَ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَجُوزُ بِخِلَافِ الَّذِي اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ لِأَنَّ لِلْأَخْرَسِ إشَارَةً مَعْهُودَةً فَإِذَا أَتَى بِهَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لِأَنَّهُ أَصْلِيٌّ (فَأَمَّا) اعْتِقَالُ اللِّسَانِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْحُدُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيِّ عَلَى صَرِيحِ الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ إذَا أَقَرَّ مُطْلَقًا عَنْ صِفَةِ التَّعَمُّدِ بِذِكْرِ آلَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ السَّيْفُ وَنَحْوُهُ يُسْتَوْفَى بِمِثْلِهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِهَا الصَّحْوُ حَتَّى يَصِحَّ إقْرَارُ السَّكْرَانِ لِأَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ صَاحٍ أَوْ لِأَنَّهُ يُنَزَّلُ عَقْلُهُ قَائِمًا فِي حَقِّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَيُلْحَقُ فِيهَا بِالصَّاحِي مَعَ زَوَالِهِ حَقِيقَةً عُقُوبَةً عَلَيْهِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
لَكِنْ الشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْإِقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَاد نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ بِهِ (أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَنَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَوْجُودًا كَانَ أَوْ حَمْلًا حَتَّى لَوْ كَانَ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ عَلَيَّ أَوْ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يُفِيدُ الْإِقْرَارُ حَتَّى لَوْ عَيَّنَ وَاحِدًا بِأَنْ قَالَ: عَنَيْت بِهِ فُلَانًا يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِنْ بَيَّنَ جِهَةً يَصِحُّ وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْحَمْلِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ: أَوْصَى بِهَا فُلَانٌ لَهُ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ صَحَّ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ.
وَإِنْ أَجْمَلَ الْإِقْرَارَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ إقْرَارَ الْعَاقِلِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لَهُ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا فَوَجَبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute