لِرَبِّ الْمَالِ هَذَا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ قَدْ جَعَلَهُ أَمِينًا فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ ضَمِينًا فِيمَا جَعَلَهُ الْعَاقِدُ أَمِينًا.
وَلَوْ مَاتَ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يُوجَدْ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا خَلَفَ، فَإِنَّهُ يَعُودُ دَيْنًا فِيمَا خَلَفَ الْمُضَارِبُ، وَكَذَا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَبْضِعُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، إذَا مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَلَا تُعْرَفُ الْأَمَانَةُ بِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالتَّجْهِيلِ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ، وَلَا تُصَدَّقُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْهَلَاكِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الْمَالِ.
وَلَوْ عَيَّنَ الْمَيِّتُ الْمَالَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ عُلِمَ ذَلِكَ، يَكُونُ ذَلِكَ أَمَانَةً فِي وَصِيَّةٍ، أَوْ فِي يَدِ وَارِثِهِ، كَمَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَيُصَدِّقُونَ عَلَى الْهَلَاكِ وَالدَّفْعِ إلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يُصَدِّقُ الْمَيِّتُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الْهِبَةِ]
[رُكْنِ الْهِبَةِ]
(كِتَابُ الْهِبَةِ)
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الْهِبَةِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْهِبَةِ أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ فَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَفِي قَوْلٍ قَالَ الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هَذَا الشَّيْءِ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ مِنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَفِي قَوْلٍ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ فَلَمْ تُقْبَلْ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا بَلْ قَبِلْتُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْهِبَةَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ وَالتَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ وُجُودُهُ شَرْعًا بِاعْتِبَارِهِ وَهُوَ انْعِقَادُهُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ فَلَا يَكُونُ نَفْسُ الْإِيجَابِ هِبَةً شَرْعًا لِهَذَا أَمْكَنَ الْإِيجَابُ بِدُونِ الْقَبُولِ تَبَعًا كَذَا هَذَا.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَرَّدِ إيجَابِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ الْقَبُولِ وَإِنَّمَا الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ حُكْمِهَا لَا لِوُجُودِهَا فِي نَفْسِهَا فَإِذَا أَوْجَبَ فَقَدْ أَتَى بِالْهِبَةِ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وُقُوعَ التَّصَرُّفِ هِبَةٌ لَا يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ قَالَ «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً» أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ وَرُوِيَ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ ﵊ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ وَفِي رِوَايَةٍ بِوَدَّانِ فَرَدَّهُ النَّبِيُّ ﵊ وَقَالَ «لَوْلَا أَنَّا حَرَامٌ وَإِلَّا لَقَبِلْنَا» فَقَدْ أَطْلَقَ الرَّاوِي اسْمَ الْإِهْدَاءِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَالْإِهْدَاءُ مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ﵁ دَعَى سَيِّدَتَنَا عَائِشَةَ ﵂ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَقَالَ لَهَا إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّكَ لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا حَرَزْتِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ الْوَارِثِ أَطْلَقَ الصِّدِّيقُ ﵁ اسْمَ النِّحْلَى بِدُونِ الْقَبْضِ وَالنِّحْلَى مِنْ أَلْفَاظِ الْهِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ نَفْسِ إيجَابِ الْمِلْكِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا دَلَّ اللَّفْظُ لُغَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ اسْمُ الْإِيجَابِ مَعَ الْقَبُولِ فَلَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَيْعِ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَتَّسِمُ التَّصَرُّفُ بِسِمَةِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ هُوَ اكْتِسَابُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ بِإِظْهَارِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَكَذَا الْغَرَضُ مِنْ الْحَلِفِ هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ هُوَ الْإِيجَابُ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْوَاهِبِ فَيَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ عَنْهُ.
(فَأَمَّا) الْقَبُولُ وَالْقَبْضُ فَفِعْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الْوَاهِبِ وَالْمِلْكُ مَحْكُومٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَى فَلَا يُتَصَوَّرُ مَنْعَ النَّفْسِ عَنْهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ فِعْلِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ إلَّا أَنَّ الْإِيجَابَ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ تَبَعًا بِدُونِ الْقَبُولِ فَشَرَطَ الْقَبُولَ لِيَصِيرَ تَبَعًا فَالْإِيجَابُ هُوَ أَنْ يَقُولَ الْوَاهِبُ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ أَوْ مَلَّكْتُهُ مِنْكَ أَوْ جَعَلْتُهُ لَكَ أَوْ هُوَ لَكَ أَوْ أَعْطَيْتُهُ أَوْ نَحَلْتُهُ أَوْ أَهْدَيْتُهُ إلَيْكَ أَوْ أَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَوَى بِهِ الْهِبَةَ.
(أَمَّا) قَوْلُهُ وَهَبْتُ لَكَ فَصَرِيحٌ فِي الْبَابِ وَقَوْلُهُ مَلَّكْتُكَ يُجْرَى مَجْرَى الصَّرِيحِ أَيْضًا لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ لِلْحَالِ مِنْ