(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قِرْطَاسٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ كِتَابَةً مُسْتَبِينَةً لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَيُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ؛ فَإِنْ قَالَ: نَوَيْتُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَعَ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْتُبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَيُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَدْ يَكْتُبُ لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ كُتِبَتْ كِتَابَةٌ غَيْرُ مُسْتَبِينَةٍ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى الْمَاءِ أَوْ عَلَى الْهَوَاءِ فَذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ مَا لَا تَسْتَبِينُ بِهِ الْحُرُوفُ لَا يُسَمَّى كِتَابَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَإِنْ كَتَبَ كِتَابَةً مَرْسُومَةً عَلَى طَرِيقِ الْخِطَابِ وَالرِّسَالَةِ مِثْلُ: أَنْ يَكْتُبَ أَمَّا بَعْدَ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ أَصْلًا لَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَقُولَ: نَوَيْت طَلَاقًا مِنْ وَثَاقٍ فَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ﷿؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْخِطَابِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُبَلِّغُ بِالْخِطَابِ مِرَّةً وَبِالْكِتَابِ أُخْرَى وَبِالرَّسُولِ ثَالِثًا؟ ، وَكَانَ التَّبْلِيغُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَالتَّبْلِيغِ بِالْخِطَابِ فَدَلَّ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَاطَبَهَا بِهَا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَضْرَةِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولًا بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ فَإِذَا قَالَ: مَا أَرَدْتُ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ أَرَادَ صَرْفَ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ، ثُمَّ إنْ كَتَبَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ وَلَمْ يَعْقِلْهُ بِشَرْطٍ بِأَنْ كَتَبَ أَمَّا بَعْدُ يَا فُلَانَةُ فَأَنْتِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ كِتَابَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كِتَابَةَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى طَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّلَفُّظِ بِهَا.
وَإِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِأَنْ كَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطِ الْوُصُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ، وَقَالُوا فِيمَنْ كَتَبَ كِتَابًا - عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ وَكَتَبَ إذَا وَصَلَ كِتَابِي إلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ مَحَا ذِكْرَ الطَّلَاقِ مِنْهُ وَأَنْفَذَ الْكِتَابَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ كَلَامٌ يُسَمَّى كِتَابًا وَرِسَالَةً - وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وُصُولُ الْكِتَابِ إلَيْهَا، فَإِنْ مَحَا مَا فِي الْكِتَابِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ كَلَامٌ يَكُونُ رِسَالَةً لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ وَإِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ وُصُولُ الْكِتَابِ وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ لَا يُسَمَّى كِتَابًا فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا بَيَانُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ فِي الشَّرْعِ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِكُلِّ وَاحِد مِنْ نوعي الطَّلَاق]
وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْوَاقِعِ بِهَا: فَالْوَاقِعُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ نَوْعَانِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ أَمَّا الصَّرِيحُ الرَّجْعِيُّ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً غَيْرَ مَقْرُونٍ بِعِوَضٍ وَلَا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ لَا نَصًّا وَلَا إشَارَةً وَلَا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا مُشَبَّهٍ بِعَدَدٍ أَوْ وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهَا
وَأَمَّا الصَّرِيحُ الْبَائِنُ فَبِخِلَافِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحُرُوفِ الْإِبَانَةِ أَوْ بِحُرُوفِ الطَّلَاقِ، لَكِنْ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً أَوْ بَعْدَهُ، لَكِنْ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا أَوْ إشَارَةً أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا إذَا عُرِفَ هَذَا فَصَرِيحُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً يَكُونُ بَائِنًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ عَنْ شَرْطٍ أَنْ يُفِيدَ الْحُكْمَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ لِلْحَالِ وَالتَّأَخُّرِ فِيمَا بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْأَصْلِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَوْ خَلَا بِهَا خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا صَرِيحَ الطَّلَاقِ.
وَقَالَ: لَمْ أُجَامِعْهَا كَانَ طَلَاقًا بَائِنًا حَتَّى لَا يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا وَإِنْ كَانَ لِلْخَلْوَةِ حُكْمُ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ حَقِيقَةً فَكَانَ بَائِنًا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعِوَضٍ وَهُوَ الْخُلْعُ بِبَدَلٍ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِعِوَضٍ طَلَاقٌ عَلَى مَالٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ، وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَهُوَ مَالُهَا فَتَمْلِكُ هِيَ الْعِوَضَ الْآخَرَ وَهُوَ نَفْسَهَا تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَلَا تَمْلِكُ إلَّا بِالْبَائِنِ فَكَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِعَدَدِ الثَّلَاثِ نَصًّا بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]
وَكَذَا إذَا أَشَارَ إلَى عَدَدِ الثَّلَاثِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا يُشِيرُ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَإِنْ أَشَارَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَإِنْ أَشَارَ بِاثْنَتَيْنِ فَهِيَ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مَتَى تَعَلَّقَتْ بِهَا الْعِبَارَةُ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ لِحُصُولِ مَا وُضِعَ لَهُ الْكَلَامُ بِهَا وَهُوَ الْإِعْلَامُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ وَالشَّرْعُ أَيْضًا أَمَّا الْعُرْفُ فَظَاهِرٌ.
(وَأَمَّا) الشَّرْعُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute