للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الطَّلَاقُ فِي يَدِك لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ، وَهِبَةُ الطَّلَاقِ مِنْهَا تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَجَعْلُ الطَّلَاقِ فِي يَدِهَا تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا فَلَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْإِزَالَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ، وَتَمْلِيكُ الطَّلَاقِ إيَّاهَا هُوَ أَنْ يُجْعَلَ إلَيْهَا إيقَاعُهُ، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: وَهَبْتُ لَك طَلَاقَكِ أَيْ: أَعْرَضْتُ عَنْ إيقَاعِهِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقَالَتْ لَهُ: هَبْ لِي طَلَاقِي تُرِيدُ: أَعْرِضْ عَنْهُ فَقَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَك طَلَاقَك يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ بِهِ فَيَنْصَرِفُ الْجَوَابُ إلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: تَرَكْتُ طَلَاقَكِ أَوْ خَلَّيْتُ سَبِيلَ طَلَاقِكِ، وَهُوَ يُرِيدُ الطَّلَاقَ وَقَعَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الطَّلَاقِ وَتَخْلِيَةَ سَبِيلِهِ قَدْ يَكُونُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِهِ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَعْرَضْتُ عَنْ طَلَاقِكِ أَوْ صَفَحْتُ عَنْ طَلَاقِكِ وَنَوَى الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي تَرْكَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالصَّفْحُ هُوَ الْإِعْرَاضُ فَلَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ.

وَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَإِنْ نَوَى، مِثْلُ قَوْلِهِ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك أَوْ قَالَ لَهَا: أَطْعِمِينِي أَوْ اسْقِينِي وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَا يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ وَبَيْنَ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي وَكُلِي، أَوْ قَالَ اذْهَبِي وَبِيعِي الثَّوْبَ، وَنَوَى الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ اذْهَبِي ذُكِرَ فِي اخْتِلَاف زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَفِي قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ طَلَاقًا.

وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ: أَحَدَهُمَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَالْآخَرَ لَا يَحْتَمِلُهُ فَيَلْغُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَيَصِحُّ مَا يَحْتَمِلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: اذْهَبِي مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ كُلِي أَوْ بِيعِي لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اذْهَبِي لِتَأْكُلِي الطَّعَامَ وَاذْهَبِي لِتَبِيعِي الثَّوْبَ، وَالذَّهَابُ لِلْأَكْلِ وَالْبَيْعِ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَوْ نَوَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ بَوَائِنُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثًا مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ ثَلَاثًا إلَّا فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ نَوْعَانِ: غَلِيظَةٌ وَخَفِيفَةٌ، فَالْخَفِيفَةُ هِيَ الَّتِي تُحِلُّ لَهُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بِدُونِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَالْغَلِيظَةُ مَا لَا تُحِلُّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ فَاسْتَحْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ مَا أَرَدْتَ ثَلَاثًا فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِحْلَافِ مَعْنًى.

وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ وَالْخَفِيفَةَ فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى إحْدَى نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَإِنْ نَوَى ثِنْتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ زُفَرُ: يَقَعُ مَا نَوَى.

وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْحُرْمَةَ وَالْبَيْنُونَةَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: خَفِيفَةٌ وَغَلِيظَةٌ وَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْكُلَّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ.

(وَلَنَا) أَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ اسْمٌ لِلذَّاتِ، وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَإِنَّمَا اُحْتُمِلَ الثَّلَاثُ مِنْ حَيْثُ التَّوَحُّدُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَلَا تَوَحُّدَ فِي الِاثْنَيْنِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ عَدَدٌ مَحْضٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِلْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ بِالثِّنْتَيْنِ، وَالْحَاصِلَ بِالْوَاحِدَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ وَالْحُرْمَةِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحِلُّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ مِنْ غَيْرِ التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ؟ فَكَانَ الثَّابِتُ بِهِمَا بَيْنُونَةً خَفِيفَةً وَحُرْمَةً خَفِيفَةً كَالثَّابِتِ بِالْوَاحِدِ فَلَا يَكُونُ هَهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ فِي الْمَعْنَى، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْأَمَةِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي الِاثْنَتَيْنِ يَقَعُ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ فِي الْأَمَةِ كُلُّ جِنْسِ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا فَكَانَ الثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، وَقَالُوا: لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ وَاحِدَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَرَامٌ يَنْوِي اثْنَتَيْنِ كَانَتْ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا لَيْسَا كُلَّ جِنْسِ طَلَاقِ الْحُرَّةِ بِدُونِ الطَّلْقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ فَالِاثْنَتَيْنِ بَيْنُونَةٌ غَلِيظَةٌ بِدُونِهَا، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ اعْتَدِّي اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ ثَلَاثًا لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا رَجْعِيَّةٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ الثَّلَاثَ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَسَّرَ بِالثَّلَاثِ فَلَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الثَّلَاثِ وَكَذَا قَوْلُهُ: اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجْعِيٌّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ.

وَكَذَا لَوْ نَوَى بِهَا اثْنَتَيْنِ لَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاثْنَتَيْنِ عَدَدٌ مَحْضٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>