إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَنَافِعِهَا، فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهَا كَمَا لَا يَمْلِكُ مَنْعَ الْأَجْنَبِيَّةِ.
وَلَوْ أَرَادَ الْمُسَافِرُ دُخُولَ مِصْرِهِ أَوْ مِصْرًا آخَرَ يَنْوِي فِيهِ الْإِقَامَةَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فِي أَوَّلِهِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُحَرِّمُ لِلْفِطْرِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ وَالْمُرَخِّصُ وَالْمُبِيحُ وَهُوَ السَّفَرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ التَّرْجِيحُ لِلْمُحَرِّمِ احْتِيَاطًا فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنْ لَا يَتَّفِقَ دُخُولُهُ الْمِصْرَ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ فَلَا بَأْسَ بِالْفِطْرِ فِيهِ وَلَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ ﵃ إلَّا شَيْئًا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يُكْرَهُ فِيهَا لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ» الصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّهَا وَقْتٌ يُسْتَحَبُّ فِيهَا الصَّوْمُ فَكَانَ الْقَضَاءُ فِيهَا أَوْلَى مِنْ الْقَضَاءِ فِي غَيْرِهَا، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ غَرِيبٌ فِي حَدِّ الْأَحَادِيثِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ مُطْلَقِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى النَّدْبِ فِي حَقِّ مَنْ اعْتَادَ التَّنَفُّلَ بِالصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَقْضِيَ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَيَقْضِي صَوْمَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[كِتَابُ الِاعْتِكَافِ]
[فَصْلٌ صِفَةُ الِاعْتِكَافِ]
(كِتَابُ الِاعْتِكَافِ) :
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاعْتِكَافِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّتِهِ وَفِي بَيَان رُكْنِهِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالِاعْتِكَافُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلٌ وَهُوَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ، بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ، بِأَنْ يَقُولَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي فِعْلٌ، وَهُوَ الشُّرُوعُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي التَّطَوُّعَ مُلْزِمٌ عِنْدَنَا كَالنَّذْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ سُنَّةٌ، مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ﵄ أَنَّهُمَا قَالَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى» وَعَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عَجَبًا لِلنَّاسِ تَرَكُوا الِاعْتِكَافَ وَقَدْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَيَتْرُكُهُ وَلَمْ يَتْرُكْ الِاعْتِكَافَ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ» .
وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَيْهِ دَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُجَاوَرَةِ بَيْتِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى خِدْمَتِهِ لِطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَطَمَعِ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ مَثَلُ الَّذِي أَلْقَى نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَغْفِرَ لِي؛ وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ الْأَمَاكِنِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ.
وَالْعَزِيمَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْقِيَامُ بِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ، وَإِنَّمَا رُخِّصَ تَرْكُهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالِاعْتِكَافِ اشْتِغَالًا بِالْعَزِيمَةِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ بِهِ يَلْتَحِقُ بِالْعَزَائِمِ الْمُوَظَّفَةِ الَّتِي لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ شَرَائِطُ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ.
أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكِفِ فَمِنْهَا: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَإِنَّهَا شَرْطُ الْجَوَازِ فِي نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ.
وَكَذَا الْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ.
وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مَمْنُوعُونَ عَنْ الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ لَا تُؤَدَّى إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَيَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، كَمَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ.
وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ فَيَصِحُّ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، فَإِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْهُ، فَإِذَا أُعْتِقَ قَضَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا نَذَرَتْ فَلِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا فَإِذَا بَانَتْ قَضَتْ؛ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا، وَلِلْوَلِيِّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَفِي الِاعْتِكَافِ تَأْخِيرُ