للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَصْلًا فَقَالَ: إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلٍ يُنْسَبُ إلَى الْعَدُوِّ كَانَ شَهِيدًا، وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِعَمَلِ الْحِرَابِ، وَالْقِتَالِ كَانَ شَهِيدًا، وَإِلَّا فَلَا سَوَاءٌ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الْعَدُوِّ، أَوْ لَا، وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ إذَا صَارَ مَقْتُولًا بِمُبَاشَرَةِ الْعَدُوِّ، بِحَيْثُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ الْقَتْلُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُوبِ قِصَاصٍ، أَوْ كَفَّارَةٍ كَانَ شَهِيدًا، وَإِذَا صَارَ مَقْتُولًا بِالتَّسَبُّبِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا، وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الزِّيَادَاتِ.

[فَصْلٌ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا فَنَقُولُ: إنَّ الشَّهِيدَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُمْ فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ كَرَامَةٌ لِبَنِي آدَمَ، وَالشَّهِيدُ يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ حَسْبَمَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ الْغُسْلُ فِي حَقِّهِ أَوْجَبَ، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْمُرْتَثُّ، وَمَنْ قُتِلَ بِحَقٍّ فَكَذَا الشَّهِيدُ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ، وَجَبَ تَطْهِيرًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا قَبْلَهُ، وَالشَّهِيدُ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَيُغَسَّلُ أَيْضًا تَطْهِيرًا لَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ تَخْفِيفًا عَلَى الْأَحْيَاءِ لِكَوْنِ أَكْثَرِ النَّاسِ كَانَ مَجْرُوحًا لِمَا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ، وَتَمْحِيصٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى غُسْلِهِمْ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ «قَالَ: فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا، وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» .

وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَعَمُّ فَالنَّبِيُّ لَمْ يَأْمُرْ بِالْغُسْلِ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا فَلَا يُزَالُ عَنْهُمْ الدَّمُ بِالْغُسْلِ لِيَكُونَ شَاهِدًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَ غُسْلِ الشَّهِيدِ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لَهُ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ جُعِلَتْ مَانِعَةً عَنْ حُلُولِ نَجَاسَةِ الْمَوْتِ، كَمَا فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِأَنْ يُزَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَبَيَّنَ الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً لَهُمْ مِنْ الْحَفْرِ، وَالدَّفْنِ، كَيْفَ صَارَتْ مَانِعَةً مِنْ الْغُسْلِ؟ وَهُوَ أَيْسَرُ مَنْ الْحَفْرِ وَالدَّفْنِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ لَوْ كَانَ لِلتَّعَذُّرِ لَأَمَرَ أَنْ يُيَمَّمُوا، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُ الْمَيِّتِ فِي زَمَانِنَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ لَمْ تُغَسَّلْ شُهَدَاءُ بَدْرٍ، وَالْخَنْدَقِ، وَخَيْبَرَ وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّعَذُّرِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ، وَلِذَا لَمْ يُغَسَّلْ عُثْمَانُ وَعَمَّارٌ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ فَدَلَّ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ تَرْكِ الْغُسْلِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ غَيْرَ مَا فَهِمَ الْحَسَنُ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ» وَرَوَيْنَا عَنْ عَمَّارٍ، وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا الْحَدِيثَ غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجِلْدُ، وَالسِّلَاحُ، وَالْفَرْوُ، وَالْحَشْوُ، وَالْخُفُّ، وَالْمِنْطَقَةُ، وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ: «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ» .

وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ تَنْزِعُ عَنْهُ الْعِمَامَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، وَالْقَلَنْسُوَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا يُتْرَكُ يُتْرَكُ لِيَكُونَ كَفَنًا، وَالْكَفَنُ مَا يُلْبَسُ لِلسَّتْرِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُلْبَسُ إمَّا لِلتَّجَمُّلِ، وَالزِّينَةِ، أَوْ لِدَفْعِ الْبَرْدِ، أَوْ لِدَفْعِ مَعَرَّةِ السِّلَاحِ، وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَفَنًا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ» الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا، وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَادَةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَسْلِحَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَيَزِيدُونَ فِي أَكْفَانِهِمْ مَا شَاءُوا، وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ حَمْزَةَ كَانَ عَلَيْهِ نَمِرَةٌ لَوْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بِهَا بَدَتْ رِجْلَاهُ وَلَوْ غُطِّيَتْ بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ، وَيُوضَعُ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِذْخِرِ» .

وَذَاكَ زِيَادَةٌ فِي الْكَفَنِ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ فَكَانَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالنُّقْصَانُ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ تَرْكُهُ بِالْوَرَثَةِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوْتَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُغَسَّلُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ مَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ» ؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ شَفَاعَةٌ لَهُ، وَدُعَاءٌ لِتَمْحِيصِ ذُنُوبِهِ، وَالشَّهِيدُ قَدْ تَطَهَّرَ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ عَنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ: «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ» فَاسْتُغْنِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْغُسْلِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>