وَغَيْرُ الْمُحَرَّمِ لَا يُوصَفُ بِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً فِي نَفْسِهَا، وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ﴾ [المائدة: ٩١] الْآيَةُ فَدَلَّ عَلَى حُرْمَةِ السُّكْرِ فَحُرِّمَتْ عَيْنُهَا وَالسُّكْرُ مِنْهَا وَقَالَ: ﵊ «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ شُرْبَهَا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَطَشِ أَوْ لِإِكْرَاهٍ قَدْرَ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ قَلِيلِهَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ الْمَحْضِ فَاحْتُمِلَ السُّقُوطُ بِالضَّرُورَةِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَنَا فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَسْقِيَ الصَّغِيرَ الْخَمْرَ فَإِذَا سَقَاهُ فَالْإِثْمُ عَلَيْهِ دُونَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ خِطَابَ التَّحْرِيمِ يَتَنَاوَلُهُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِأَنَّ حُرْمَتَهَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ نَصُّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ فَكَانَ مُنْكَرُ الْحُرْمَةِ مُنْكَرًا لِلْكِتَابِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ يُحَدُّ شَارِبُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِالْمَاءِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ يَجِبُ الْحَدُّ، وَإِنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهَا حَتَّى زَالَ طَعْمُهَا وَرِيحُهَا لَا يَجِبْ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كَانَتْ لِلْخَمْرِ فَقَدْ بَقِيَ اسْمُ الْخَمْرِ وَمَعْنَاهَا وَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُ الْمَاءِ الْمَمْزُوجِ بِالْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ حَقِيقَةً وَكَذَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْخَمْرِ الْمَطْبُوخِ لِأَنَّ الطَّبْخَ لَا يُحِلُّ حَرَامًا وَلَوْ شَرِبَهَا يَجِبُ الْحَدُّ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَالْمَعْنَى بَعْدَ الطَّبْخِ وَلَوْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إلَّا إذَا سَكِرَ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَمَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ نَاقِصٌ لِكَوْنِهِ مَخْلُوطًا بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُنَصَّفَ وَإِذَا سَكِرَ مِنْهُ يَجِبُ حَدُّ السُّكْرِ كَمَا فِي الْمُنَصَّفِ وَيَحْرُمُ شُرْبُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ قَاءَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَلَا حَدَّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ سَكِرُوا مِنْ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمْ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ ﵀ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا سَكِرُوا لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا.
[حَدّ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحَّدَ السُّكْرِ]
(وَمِنْهَا) أَنَّ حَدَّ شُرْبِ الْخَمْرِ وَحَّدَ السُّكْرِ مُقَدَّرٌ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي الْأَحْرَارِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ﵃ وَقِيَاسِهِمْ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ حَتَّى قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ ﵁ إذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ وَبِأَرْبَعِينَ فِي الْعَبِيدِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلْحَدِّ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥] .
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ تَمْلِيكُهَا وَتَمَلُّكُهَا بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِالْخَمْرِ وَإِنَّهَا مُحَرَّمَةُ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ قَالَ «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ إنَّ اللَّهَ ﵎ قَدْ أَنْزَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَمَنْ كَتَبَ هَذِهِ الْآيَةَ وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا فَلَا يَشْرَبْهَا وَلَا يَبِعْهَا فَسَكَبُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ» إلَّا أَنَّهَا تُوَرَّثُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَوْرُوثِ ثَبَتَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ، وَالْخَمْرُ إنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مَالٌ عِنْدَنَا فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْجُمْلَةِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا إذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي حَقِّهِ وَإِتْلَافُ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ يَضْمَنْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ﵀، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْغَصْبِ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهَا نَجِسَةٌ غَلِيظَةٌ حَتَّى لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ ﵎ سَمَّاهَا رِجْسًا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ ﴿رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة: ٩٠] وَلَوْ بَلَّ بِهَا الْحِنْطَةَ فَغُسِلَتْ وَجُفِّفَتْ وَطُحِنَتْ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا طَعْمُ الْخَمْرِ وَرَائِحَتُهَا يَحِلَّ أَكْلُهُ وَإِنْ وُجِدَ لَا يَحِلَّ لِأَنَّ قِيَامَ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ دَلِيلُ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ، وَزَوَالَهَا دَلِيلُ زَوَالِهَا وَلَوْ سُقِيَتْ بَهِيمَةٌ مِنْهَا ثُمَّ ذُبِحَتْ فَإِنْ ذُبِحَتْ سَاعَةَ مَا سُقِيَتْ بِهِ تَحِلَّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِأَنَّهَا فِي أَمْعَائِهَا بَعْدُ فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ مَضَى عَلَيْهَا يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ تَحِلَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تَفَرَّقَتْ فِي الْعُرُوقِ وَالْأَعْصَابِ.
(وَمِنْهَا) إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا يَحِلُّ شُرْبُ الْخَلِّ بِلَا خِلَافِ لِقَوْلِهِ: ﵊ «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّخَلُّلُ بِالتَّغَيُّرِ مِنْ الْمَرَارَةِ إلَى الْحُمُوضَةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا مَرَارَةٌ أَصْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵁ حَتَّى لَوْ بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ الْمَرَارَةِ لَا يَحِلُّ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ قَلِيلِ الْحُمُوضَةِ فِيهَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّ الْعَصِيرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ فَكَذَا الْخَمْرُ لَا يَصِيرُ خَلًّا إلَّا بَعْدَ تَكَامُلِ مَعْنَى الْخَلِيَّةِ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ خَمْرًا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَمْرِيَّةِ وَيَصِيرُ خَلًّا بِظُهُورِ دَلِيلِ الْخَلِيَّةِ فِيهِ هَذَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا، فَأَمَّا إذَا خَلَّلَهَا