وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُ الضَّمَانَ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ كَالنِّصْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ وَهَبَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ عَيْنًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ مِنْهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَا تَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ هُوَ نِصْفُ الْمَوْهُوبِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ رَجَعَ إلَيْهِ بِعَقْدٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ عَرَضًا فَكَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ فَصَارَ كَأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَقَبَضَتْهُ ثُمَّ وَهَبَتْهُ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمِثْلِ نِصْفِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالطَّلَاقِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي وَهَبَتْهُ بِعَيْنِهِ، بَلْ مِثْلُهُ بِدَلِيلِ أَنَّهَا كَانَتْ مُخَيَّرَةً فِي الدَّفْعِ إنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَإِنْ شَاءَتْ دَفَعَتْ مِثْلَهُ كَمَا كَانَ الزَّوْجُ مُخَيَّرًا فِي الدَّفْعِ إلَيْهَا بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَكُنِ الْعَائِدُ إلَيْهِ عَيْنَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَصَارَ كَأَنَّهَا وَهَبَتْ مَالًا آخَرَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ نِصْفِ الصَّدَاقِ كَذَا هَذَا.
وَقَالَ زُفَرُ: فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَقَبَضَتْهَا ثُمَّ وَهَبَتْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَهُ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَتَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ أَيْضًا كَالْعُرُوضِ، وَعِنْدَنَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْفَسْخِ، وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فَقَبَضَتْ الْكُلَّ ثُمَّ وَهَبَتْ الْبَعْضَ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا إذَا وَهَبَتْ الْكُلَّ فَإِذَا وَهَبَتْ الْبَعْضَ أَوْلَى، وَإِذَا قَبَضَتْ النِّصْفَ ثُمَّ وَهَبَتْ النِّصْفَ الْبَاقِيَ أَوْ وَهَبَتْ الْكُلَّ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِرُبُعِ الْمَهْرِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُ الْمَهْرِ، فَإِذَا قَبَضَتْ النِّصْفَ دُونَ النِّصْفِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ مُشَاعًا فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ وَفِيمَا قَبَضَتْ، فَكَانَ نِصْفُ النِّصْفِ وَهُوَ رُبُعُ الْكُلِّ فِي ذِمَّتِهِ وَنِصْفُ النِّصْفِ فِيمَا قَبَضَتْ إلَّا أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ وَهَبَتْهُ حَتَّى طَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ قِصَاصًا بِمَالِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا وَهَبَتْ بَقِيَ حَقُّهُ فِي نِصْفِ مَا فِي يَدِهَا - وَهُوَ الرُّبُعُ - فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ وَهَبَتْ وَطَلَّقَهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَقَدْ عَادَ إلَيْهِ مَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَهُوَ الْهِبَةُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ بِشَيْءٍ.
وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ جَنَى عَلَيْهَا فَوَجَبَ الْأَرْشُ أَوْ كَانَ شَجَرًا فَأَثْمَرَ أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ ثُمَّ وَهَبَتْهُ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ يَنْقَطِعُ عَنْ الْعَيْنِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا مَعَ الزِّيَادَةِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّهُ مُنْقَطِعًا عَنْهَا لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالْهِبَةِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالطَّلَاقِ، فَكَانَ لَهُ قِيمَتُهَا، وَإِذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فَالْحَقُّ وَإِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ الْعَيْنِ بِهِ لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ مَعَ الْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ الْحَقُّ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ الْوَاصِلُ إلَى الزَّوْجِ عَيْنَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالطَّلَاقِ.
وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي بَدَنِهَا فَوَهَبَتْهَا لَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ تَمْنَعُ، وَإِذَا بَاعَتْهُ الْمَهْرَ أَوْ وَهَبَتْهُ عَلَى عِوَضٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِمِثْلِ، نِصْفِهِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ وَبِنِصْفِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عَادَ إلَى الزَّوْجِ بِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ فَوَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ ضَمِنَهَا كَمَا لَوْ بَاعَتْهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الزَّوْجُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ إنْ كَانَتْ بَاعَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهَا بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْ ثُمَّ بَاعَتْ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ فَمَا يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ نَوْعَانِ:.
نَوْعٌ يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَنَوْعٌ يَسْقُطُ بِهِ نِصْفُ الْمَهْرِ مَعْنًى وَالْكُلُّ صُورَةً، أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ، وَالْمَهْرُ دَيْنٌ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ قَدْ يَسْقُطُ بِهِ عَنْ الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَقَدْ يَعُودُ بِهِ إلَيْهِ النِّصْفُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ بِهِ مِثْلُ النِّصْفِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَهْرَ الْمُسَمَّى إمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ