للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَلْ فِيهِ عَمَلٌ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ طَافَ فِي دَاخِلِ الْحِجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ لَمَّا كَانَ مِنْ الْبَيْتِ فَإِذَا طَافَ فِي دَاخِلِ الْحَطِيمِ فَقَدْ تَرَكَ الطَّوَافَ بِبَعْضِ الْبَيْتِ، وَالْمَفْرُوضُ هُوَ الطَّوَافُ بِكُلِّ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ كُلَّهُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ فَإِنْ أَعَادَ عَلَى الْحِجْرِ خَاصَّةً أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ لَا غَيْرُ فَاسْتَدْرَكَهُ، وَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى عَادَ إلَى أَهْلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ رُبْعُ الْبَيْتِ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِهِ رُبْعَهُ.

[فَصْلٌ زَمَانُ طَوَاف الزِّيَارَة]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا زَمَانُ هَذَا الطَّوَافِ، وَهُوَ، وَقْتُهُ فَأَوَّلُهُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا حَتَّى لَا يَجُوزَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَوَّلُ، وَقْتِهِ مُنْتَصَفُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَقْتُ رُكْنٍ آخَرَ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَلَا يَكُونُ، وَقْتًا لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ وَقْتًا لِرُكْنَيْنِ، وَلَيْسَ لِآخِرِهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مُوَقَّتٌ بِهِ فَرْضًا بَلْ جَمِيعُ الْأَيَّامِ، وَاللَّيَالِي، وَقْتُهُ فَرْضًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ أَخَّرَهُ عَنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ غَيْرُ مُوَقَّتٍ أَصْلًا، وَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَمَّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَقَالَ ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» ، وَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ قُدِّمَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ.

فَهَذَا يَنْفِي تَوْقِيتَ آخِرِهِ، وَيَنْفِي وُجُوبَ الدَّمِ بِالتَّأْخِيرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَقَّتَ آخِرُهُ لَسَقَطَ بِمُضِيِّ آخِرِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَمَّا لَمْ يَسْقُطْ دَلَّ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّتُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّأْخِيرَ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ثُمَّ أَحْرَمَ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا تَأْخِيرُ الشَّكِّ، وَكَذَا تَأْخِيرُ الْوَاجِبِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ، وَهُوَ سَجْدَتَا السَّهْوِ فَكَانَ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَدَاءَ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ، وَاجِبٌ فَمُرَاعَاةُ مَحَلِّ الْوَاجِبِ، وَاجِبٌ فَكَانَ التَّأْخِيرُ تَرْكًا لِلْمُرَاعَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَالتَّرْكُ تَرْكًا لِوَاجِبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِي نَفْسِهِ، وَالثَّانِي مُرَاعَاتُهُ فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا تَرَكَ هَذَا الْوَاجِبَ يَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ وَإِذَا تَوَقَّتْ هَذَا الطَّوَافُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وُجُوبًا عِنْدَهُ فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْهَا فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّتْ عِنْدَهُمَا فَفِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ فَقَدْ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ نَقْصٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَفْيَ الْحَرَجِ، وَهُوَ نَفْيُ الْإِثْمِ، وَانْتِفَاءُ الْإِثْمِ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ، وَعَلَيْهِ الدَّمُ كَذَا هَهُنَا، وَقَوْلُهُمَا إنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ آخِرِ الْوَقْتِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُوَقَّتًا، وَوَاجِبًا فِي الْوَقْتِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِخُرُوجِ أَوْقَاتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُوَقَّتَةً حَتَّى تُقْضَى كَذَا هَذَا، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الطَّوَافُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ ﷺ «أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَوَّلُهَا أَفْضَلُهَا» .

وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ ﷺ طَافَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْعِبَادَاتِ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِهَا، وَلِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ يَقَعُ بِهِ تَمَامُ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْ النِّسَاءِ فَكَانَ فِي تَعْجِيلِهِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ، وَلُزُومِ الْبَدَنَةِ فَكَانَ أَوْلَى.

[فَصْلٌ مِقْدَارُ الطَّوَاف]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَالْمِقْدَارُ الْمَفْرُوضُ مِنْهُ هُوَ أَكْثَرُ الْأَشْوَاطِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ، وَأَكْثَرُ الشَّوْطِ الرَّابِعِ، فَأَمَّا الْإِكْمَالُ فَوَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ قَبْلَ الْإِتْمَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الشَّاةُ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْفَرْضُ هُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لَا يَتَحَلَّلُ بِمَا دُونَهَا، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَقَادِيرَ الْعِبَادَاتِ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ «، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» فَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَهَا، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ إلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَلَا إجْمَاعَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِأَكْثَرِ الطَّوَافِ، وَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِيمَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فِي بَابِ الْحَجِّ كَالذَّبْحِ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ قَطْعَ الْعُرُوقِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَفْرُوضُ هَذَا الْقَدْرَ فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ أَتَى بِالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ فَيَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ السَّبْعَةِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَيَجِبُ بِتَرْكِهِ الشَّاةَ دُونَ الْبَدَنَةِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>