للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى الرُّجُوعِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِخْلَافِ إنْ ثَبَتَ نَصًّا لِكَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى إصْلَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْحَاجَةُ هَهُنَا مُتَحَقِّقَةٌ فَيَجُوزُ وَقَوْلُهُ إنَّ بَيْنَ كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ تَابِعًا وَمَتْبُوعًا مُنَافَاةٌ قُلْنَا: فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مُسَلَّمٌ أَمَّا فِي شَيْئَيْنِ فَلَا وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ حَقِيقَةً فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَابِعًا فِي بَعْضِهَا وَمَتْبُوعًا فِي بَعْضٍ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَجَزِّئَةٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهَا أَفْعَالٌ مُتَغَايِرَةٌ إلَّا فِي حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَارْتِفَاعُهُ يَكُونُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَفِي حَقِّ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ فَغَيَّرَهَا فَلَمْ تَبْقَ مُتَبَعِّضَةً مُتَجَزِّئَةً فِي حَقِّهِمَا، فَأَمَّا فِي حَقِّ التَّبَعِيَّةِ وَالْمَتْبُوعِيَّةِ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْحَاجَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَفِي أَوَانِ الْحَاجَةِ لَا إجْمَاعَ، وَالْحَقَائِقُ تَتَبَدَّلُ بِقَدْرِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلتَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ حَيْثُ جَوَّزَ الِاسْتِخْلَافَ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مَرَّةً تَابِعًا وَمَرَّةً مَتْبُوعًا غَيْرُ مَانِعٍ، وَيُنْظَرُ إلَى الْحَاجَةِ لَا إلَى وُرُودِ الشَّرْعِ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي اسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ؟ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَسْبُوقِ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ الْخَاصُّ فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَغْيِيرِهَا، وَمَنْ جَعَلَ وُرُودَ الشَّرْعِ بِالْجَوَازِ لِذِي الْحَاجَةِ وُرُودًا فِي كُلِّ مَحِلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِالْأَئِمَّةِ الْخَمْسَةِ وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَكَذَا الْوَاحِدُ إذَا ائْتَمَّ فَسَبَقَ الْإِمَامَ الْحَدَثُ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَاحِدُ لِلْإِمَامَةِ فَإِذَا جَاءَ الْأَوَّلُ صَارَ مُقْتَدِيًا بِهِ، ثُمَّ لَوْ سَبَقَ الثَّانِيَ حَدَثٌ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْإِمَامَةِ، ثُمَّ إذَا جَاءَ هَذَا الثَّانِي وَسَبَقَ الْأَوَّلَ حَدَثٌ تَعَيَّنَ هَذَا الثَّانِي لِلْإِمَامَةِ هَكَذَا مِرَارًا، لَكِنْ لَمَّا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ جُوِّزَ وَجُعِلَ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَارِدًا فِي كُلِّ مَحَلٍّ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ فِيهِ فَكَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ فَرْضِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْفَرِيضَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا، وَفِي بَيَانِ قَدْرِهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا فَسَدَتْ أَوْ خَرَجَ وَقْتُهَا، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمَا يُكْرَهُ فِيهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْجُمُعَةُ فَرْضٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا وَيُكَفَّرُ جَاحِدُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ٩] قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ هُوَ الْخُطْبَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ إلَى الْخُطْبَةِ إنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إلَى الْخُطْبَةِ فَكَانَ فَرْضُ السَّعْيِ إلَى الْخُطْبَةِ فَرْضًا لِلصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَيَتَنَاوَلُ الْخُطْبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَنَتِي هَذِهِ فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي اسْتِخْفَافًا بِهَا وَجُحُودًا عَلَيْهَا وَتَهَاوُنًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا لَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا لَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا لَا حَجَّ لَهُ، أَلَا لَا صَوْمَ لَهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» .

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ﵄ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ» ، وَمِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.

[فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِيَّتِهَا.

فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ لَكِنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ الْحُرُّ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ حَتْمًا، وَالْمَعْذُورُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ حَتَّى لَوْ أَدَّى الْجُمُعَةَ يَسْقُطُ عَنْهُ الظُّهْرُ وَتَقَعُ الْجُمُعَةُ فَرْضًا، وَإِنْ تَرَكَ التَّرَخُّصَ يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الْعَزِيمَةِ وَيَكُونُ الْفَرْضُ هُوَ الظُّهْر لَا غَيْرُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَوْلَانِ فِي قَوْلٍ قَالَ: فَرْضُ الْوَقْتِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ بِالظُّهْرِ رُخْصَةً، وَفِي قَوْلٍ قَالَ: الْفَرْضُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا فَأَيَّهُمَا فَعَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْفَرْضَ، وَقَالَ زُفَرُ وَقْتُ الْفَرْضِ هُوَ الْجُمُعَةُ وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجُمُعَةُ ظُهْرُ قَاصِرٍ، وَعِنْدَنَا هِيَ صَلَاةٌ مُبْتَدَأَةٌ غَيْرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِي بِنَاءِ الظُّهْرِ عَلَى تَحْرِيمَةِ الْجُمُعَةِ بِأَنْ خَرَجَ

<<  <  ج: ص:  >  >>