عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَرْضِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِحَرَجٍ، فَإِذَا تَحَمَّلَ الْحَرَجَ، وَقَعَ مَوْقِعَهُ كَالْفَقِيرِ إذَا حَجَّ، وَالْعَبْدِ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ فَأَدَّاهَا؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ صَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، وَالصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ الْعَبْدَ، وَالصَّبِيَّ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْحَجِّ، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ، وُجُودُهَا، وَقْتَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ حَتَّى لَوْ مَلَكَ الزَّادَ، وَالرَّاحِلَةَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ صَرْفِ ذَلِكَ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ قَبْلَ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ قَبْلَهُ، وَمَنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ فَكَانَ بِسَبِيلٍ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَإِذَا صَرَفَ مَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ أَهْلُ بَلَدِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَأَمَّا إذَا جَاءَ، وَقْتُ الْخُرُوجِ، وَالْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْلِ بَلَدِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ فَيَلْزَمُهُ التَّأَهُّبُ لِلْحَجِّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لِلطَّهَارَةِ.
وَقَدْ قَرُبَ الْوَقْتُ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِهْلَاكُهُ فِي غَيْرِ الطَّهَارَةِ، فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْحَجِّ أَثِمَ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ رُكْنُ الْحَجِّ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا رُكْنُ الْحَجِّ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا.
الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَصْلِيُّ لِلْحَجِّ، وَالثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ.
أَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي.
بَيَانِ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: ٩٧] فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إذْ الْحَجُّ فِعْلٌ، وَعَرَفَةُ مَكَانٌ فَلَا يَكُونُ حَجًّا فَكَانَ الْوُقُوفُ مُضْمَرًا فِيهِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: الْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.
وَالْمُجْمَلُ إذَا الْتَحَقَ بِهِ التَّفْسِيرُ يَصِيرُ مُفَسَّرًا مِنْ الْأَصْلِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، وَالْحَجُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.
فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الرُّكْنُ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِدَلِيلٍ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي سِيَاقِ التَّفْسِيرِ: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ اسْمًا لِلْحَجِّ فَدَلَّ أَنَّهُ رُكْنٌ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ بِهِ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ التَّمَامُ لَا الْفَرْضُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: تَمَّ حَجُّهُ لَيْسَ هُوَ التَّمَامُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ بَلْ خُرُوجُهُ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ فَقَوْلُهُ: " فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ " أَيْ: خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسَادِ بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: ٩٧]
وَفَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَجَّ: بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَصَارَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرْضًا، وَهُوَ رُكْنٌ فَلَوْ حُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النُّقْصَانِ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ الْحَجُّ بِدُونِهِ فَيَتَنَاقَضُ، فَحُمِلَ التَّمَامُ الْمَذْكُورُ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ احْتِمَالِ الْفَسَادِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَقَوْلُهُ ﷿: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: ١٩٩] قِيلَ: إنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ لَا نُفِيضُ كَغَيْرِنَا مِمَّنْ قَصَدَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﷿ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَالنَّاسُ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَإِفَاضَتُهُمْ مِنْهَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ حُصُولِهِمْ فِيهَا فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهَا أَمْرًا بِالْوُقُوفِ بِهَا
ضَرُورَةً.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﷿ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ [البقرة: ١٩٩] .
وَكَذَا الْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى كَوْنِ الْوُقُوفِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ.
وَأَمَّا مَكَانُ الْوُقُوفِ فَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ» .
وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» .
فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ عُرَنَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَادِي الشَّيْطَانِ.
وَأَمَّا زَمَانُهُ فَزَمَانُ الْوُقُوفِ مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ