نَفَى ﷾ الْجُنَاحَ عَمَّنْ يَسْتَرْضِعُ وَلَدَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِرْضَاعُ بِالْأُجْرَةِ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى ﴿إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٣] قِيلَ أَيْ الْأَجْرَ الَّذِي قَبِلْتُمْ، وَقَوْلُهُ ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦] وَهَذَا نَصٌّ وَهُوَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ﵄ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَهَذَا مِنْهُ ﷺ تَعْلِيمُ شَرْطِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَجْرِ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» أَمَرَ ﷺ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى إعْطَاءِ أَجْرِ الْأَجِيرِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِجَارَةِ، وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» ، وَعَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهَا قَالَتْ: «اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ ﵁ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَأَتَاهُمَا فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدِّيلِيُّ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ» وَأَدْنَى مَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ الْجَوَازُ.
وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَهُوَ فِي حَائِطِهِ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الْحَائِطُ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ» خَصَّ ﷺ النَّهْيَ بِاسْتِئْجَارِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةً أَصْلًا لَعَمَّ النَّهْيُ إذْ النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ، وَكَذَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا مِنْهُ وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ الْأَصَمِّ حَيْثُ يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ ﵃ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَلَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِ إذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعُقُودَ لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْإِجَارَةِ مَاسَّةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ لَهُ دَارٌ مَمْلُوكَةٌ يَسْكُنُهَا أَوْ أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ يَزْرَعُهَا أَوْ دَابَّةٌ مَمْلُوكَةٌ يَرْكَبُهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِالشِّرَاءِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ، وَلَا بِالْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ كُلِّ وَاحِدٍ لَا تَسْمَحُ بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِجَارَةِ فَجُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ، تَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ شَرَعَ لِكُلِّ حَاجَةٍ عَقْدًا يَخْتَصُّ بِهَا فَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْبَيْعُ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْهِبَةُ، وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وَهُوَ الْإِعَارَةُ، فَلَوْ لَمْ يُشَرِّعْ الْإِجَارَةَ مَعَ امْتِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لَمْ يَجِدْ الْعَبْدُ لِدَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ سَبِيلًا وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ.
[فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا رُكْنُ الْإِجَارَةِ، وَمَعْنَاهَا أَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عَلَيْهَا وَهُوَ لَفْظُ الْإِجَارَةِ، وَالِاسْتِئْجَارِ، وَالِاكْتِرَاءِ، وَالْإِكْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ.
وَالْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَصِفَتِهِمَا فِي الْإِجَارَةِ كَالْكَلَامِ فِيهِمَا فِي الْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَأَمَّا مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْعًا وَأَرَادُوا بِهِ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْبَدَلُ فِي هَذَا الْعَقْدِ أُجْرَةً، وَسَمَّى اللَّهُ بَدَلَ الرَّضَاعِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦] وَالْأُجْرَةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَهْرُ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [النساء: ٢٥] أَيْ مُهُورَهُنَّ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، وَسَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدُّورِ، وَالْمَنَازِلِ، وَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ، وَالْحَمَّامَاتِ، وَالْفَسَاطِيطِ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، وَالدَّوَابِّ، وَالثِّيَابِ، وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي، وَالظُّرُوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ إلَى الصُّنَّاعِ مِنْ الْقَصَّارِ، وَالْخَيَّاطِ، وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ، وَالنَّجَّارِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوِهِمْ، وَالْأَجِيرُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِأَجِيرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِعَامَّةِ النَّاسِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعَانِ إجَارَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَإِجَارَةٌ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَفَسَّرَ النَّوْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَعَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمَنْفَعَةَ وَفِي الْآخَرِ الْعَمَلَ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ